منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية الوحشية التي شُنَّت على قطاع غزة الفلسطيني برز اسم الطبيب الغزاوي حسام أبو صفية كأيقونة تعبر عن حجم المعاناة التي تواجه الأطباء الفلسطينيين والقطاع الطبي في الحرب التي ارتُكبت فيها أسوأ أشكال الانتهاكات ضد الأطباء والمراكز الصحية والمستشفيات، فلم تلتزم إسرائيل منذ الأيام الأولى للحرب بأيٍ من القواعد والاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تضمن لهم السلامة ولم تجنِّبهم آثار حربها التي دمرت القطاع بالكامل وحولته لمجرد كومة من تراب.
في الأشهر الأخيرة كان مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمال قطاع غزة الذي يديره الطبيب حسام أبو صفية، هو آخر المرافق الطبية التي تقدم الدعم الصحي لسكان غزة وإن كان بإمكانيات محدودة في مقابل آلة حرب إسرائيلية قررت ألّا تتوقف، فكان المستشفى يستقبل يومياً جثث العشرات من الشهداء والمئات من المصابين والعاملين فيه لا يتوقفون عن أداء رسالتهم الإنسانية.
اقرأ أيضا.. هكذا كانت مخابرات نظام الأسد تراقب الصغير والكبير
ومنذ الخامس من أكتوبر عندما شنت إسرائيل هجومها الموسع على شمال غزة ومنعت دخول المساعدات الإنسانية بما فيها الطعام والشراب وكان واضحاً أنها تتعامل مع المستشفى كهدف عسكري قابل للاستهداف لأكثر من مرة في اليوم الواحد دون الاستجابة للمناشدات والاستغاثات الدولية ومن المنظمات الصحية التي حذّرت من كارثة.
وصعَّدت إسرائيل من استهداف المستشفى عندما دخلت قواتها إليه في الخامس والعشرين من ديسمبر واعتقلت العشرات من العاملين فيه على رأسهم الطبيب حسام أبو صفية، ولكن تم الإفراج عنهم في ما بعد خاصة بعدما قتلوا أحد أبناء الطبيب حسام الذي دفن في ساحة المستشفى.
قال حسام بعد الإفراج عنه “لا يعرف الجيش الإسرائيلي ماذا يريد، احتجزوني لعدة ساعات واستجوبوني حول ما إذا كان هناك مقاتلون داخل المستشفى، وطالبوني بإخلاء المستشفى بالكامل، لكنني رفضت وأكدت لهم أن هناك مرضى فقط داخل المستشفى… رفضت مغادرة المستشفى والتضحية بمرضاي، لذلك عاقبني الجيش بقتل ابني”.
وأضاف “رأيته يموت عند بوابة الدخول، كانت صدمة كبيرة، وجدت قبراً له بالقرب من أحد جدران المستشفى، حتى يتمكن من البقاء بالقرب مني”.
وفي شهر نوفمبر أصيب حسام أبو صفية بجروح خطيرة في فخذه اليسرى، وعلى الرغم من ذلك لم يتوقف عن تقديم رسالته في مساعدة الجرحى والمصابين، وخرج برسالة وجهها للعالم قال فيها “الاحتلال يستهدف الجميع، لكن ذلك لن يُثنينا على الاستمرار بمسيرتنا الإنسانية، وسنبقى نقدم هذه الخدمة مهما كلفنا الأمر”.
وبينما هو يرقد على السرير في المستشفى قال “أصبت في مكان عملي، وهذا شرف لي، ودماؤنا ليست أغلى من دماء الناس وحتى لو فقدنا أرواحنا سنبقى صامدين، ودمائي ليست أغلى من دماء زملائي بالكوادر الطبية الذين أصيبوا قبلي”.
وبعد النصف الأول من شهر ديسمبر كثّفت إسرائيل هجماتها على المستشفى بينما كانت المناشدات والصرخات تخرج من بين جدرانه تطالب بوضع حد لممارسات القوات الإسرائيلية، وفي الثاني والعشرين من الشهر طلبت إخلاء المستشفى دون إعطاء وسائل لإخراج المرضى.
وبعدها بدأ الاحتلال تصعيد ممارسته ضد المستشفى وصولاً إلى اقتحامها واعتقال العشرات من العاملين فيها الذين ظهروا وهم مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين في ساحة المستشفى، ومن بعد ذلك الإقدام على إحراقه لتعلن منظمة الصحة العالمية في 28 ديسمبر خروج مستشفى كمال عدوان آخر مرفق صحي كبير في شمال قطاع غزة عن الخدمة.
وبين العشرات من المعتقلين كان الجميع يبحث عن صورة الطبيب حسام أبو صفية حتى أعلنت وزارة الصحة في غزة اعتقاله وظهرت صورته التي ستخلد مع صور أخرى من الحرب، وهو يخرج من المستشفى بالرداء الأبيض بين الركام والحطام وفي مواجهته دبابة إسرائيلية.
وبعد الكشف عن اعتقاله انطلقت حملة عالمية تطالب بالإفراج عنه، ودعا مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، تل أبيب للإفراج عنه، إلى جانب منظمات أخرى دولية أكدت تضامنها معه.
حسام، أو أبو إلياس كما عُرف، أصبح رمزاً ونموذجاً لما يعانيه الأطباء بسبب الحرب… ولد يوم 21 نوفمبر 1973 في مخيم جباليا بمحافظة شمال قطاع غزة وتعود أصول عائلته إلى بلدة حمامة في عسقلان.
عاش خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي الداخلي للقطاع، والحصار، وكذلك الهجمات الجوية الإسرائيلية التي لا تُعد ولا تحصى على القطاع، والتحق بمراحل التعليم المختلفة في غزة حتى توجه إلى دراسة الطب البشري في إحدى الجامعات الروسية في التسعينيات وعاد إلى غزة، وخلال سفره التقى زوجته ألبينا أبو صفية، وهي من أصل كازاخستاني.
وحصل بعد عودته على درجة الماجستير وشهادة البورد الفلسطيني في طب الأطفال وحديثي الولادة، وانتقل تدريجياً من مستشفى إلى آخر لعلاج الأطفال والمواليد الجدد.
في لقاء لها بعد اعتقاله، قالت زوجته إنها لم تفارقه منذ بداية الحرب، وهو لم يفارق مستشفى كمال عدوان، حيث تمسك بوجوده فيه حرصاً منه على الجرحى والمرضى.
وروت قصة حبهما “جاء إلى بلدي كازاخستان لدراسة الطب، فتعرَّفنا وجمعتنا قصة حب دفعتني لترك كل شيء والانتقال للعيش معه في شمال غزة”.