أخطر أنواع الحروب هي التي لا يمكن حسمها في الميدان. ولا يسهل وقفها بتسوية سياسية. ولبنان يواجه مثل هذه الحرب ومعها أقصى التوحش الإسرائيلي، وسط خلافات حادة حول انفراد “المقاومة الإسلامية” بالقرار لأسباب استراتيجية إقليمية من دون حساب لحال الجبهة الداخلية.
حرب تفرض أهدافها المعلنة أن تكون طويلة ولكن “عندما تبدأ حرباً فإنها تصبح غير قابلة للتكهن”، كما يقول وزير الدفاع الأميركي سابقاً روبرت غيتس. ولا مجال في منتصف المعارك لوقف حرب يتصور طرفاها أنهما على مسافة صبر ساعة من النصر. بنيامين نتنياهو يرى “فرصة لتغيير الشرق الأوسط”، ويتحدث عن “معالجة أذرع الأخطبوط، وفي الوقت نفسه ضرب رأسه في إيران”. و”محور المقاومة” الذي عماده “حزب الله”، يؤمن بأن مستقبل المنطقة له. وقائد المحور المرشد الأعلى علي خامنئي “يكلف الأمة المقاومة”.
وكل الذين يعملون على ترتيب لوقف النار يصطدمون، ليس فقط بإصرار “حزب الله” على ربط لبنان بغزة بل أيضاً بشروط إسرائيلية مفصلة ويستحيل قبولها لوقف النار، وشروط “حزب الله” غير المعلنة للبحث فيها بعد وقف النار. لا بل يدركون أنهم يقومون بمهمة عبثية في تراجيديا لبنانية. ولا وزن لما تعلنه بقايا السلطة الرسمية في بيروت عن الاستعداد لتنفيذ القرار 1701 بكل مندرجاته.
ذلك أن القرار 1701 الذي يوحي الجميع حالياً بأنه الحل السحري بقي منذ عام 2006 في مرحلة “وقف الأعمال العدائية” من دون التوصل إلى مرحلة “وقف النار التام”. حتى وقف الأعمال العدائية ونشر الآلاف من الجيش اللبناني والقوات الدولية المعززة (يونيفيل) والتقارير الدورية كل ستة أشهر إلى مجلس الأمن الدولي عن حال تطبيق القرار، فإنها لم تحل دون إنشاء “حزب الله” بنية تحتية عسكرية وأمنية في منطقة عمليات القوات الدولية. وما كان ذلك بالسهو أو بالإهمال بل بالعجز الرسمي والدولي والإصرار الإسرائيلي على خرق التنفيذ.
اقرأ أيضا.. حرب «الجيل الرابع» تخوضها إسرائيل في لبنان!
فلا المشكلة كانت في صيغة القرار 1701. ولا الحل في تطوير آليات التطبيق ما دام صدور قرار آخر مهمة صعبة في الوضع الدولي المتأزم بين الكبار. وحتى في حال صدور قرار جديد في مجلس الأمن بمعجزة، فإنه سيصطدم بشروط أصعب من إسرائيل ومهمة أكثر راديكالية لـ”حزب الله”. كيف؟
لا أسرار. وما كان وراء ستار رقيق كشفته الحرب بالكامل. إسرائيل تريد أرضاً محروقة بلا سكان ولا مقاتلين بالطبع. تطلب مراقبة دولية للحدود بين لبنان وسوريا، وتشترط أن تضمن لها أميركا حرية العمل العسكري والأمني داخل لبنان مع استمرار الخرق الجوي. أي إنها تخرج من لبنان ولا تخرج، وتفرض تطبيق القرار الدولي على طرف واحد يتخلى عن سلاحه، لا فقط جنوب الليطاني بل أيضاً في كل مكان. وماذا يفعل “حزب الله” إذا تخلى عن السلاح والمقاومة ومن ثم عن مبرر وجوده؟ أليس ربط الجبهة اللبنانية بحرب غزة جزءاً من ربط أقوى بين المشروع الإقليمي الإيراني وقضية فلسطين؟ بماذا يفيد “حزب الله” بلا سلاح ولا مقاومة، إيران التي تمول وتسلح “محور المقاومة” ليكون خط الدفاع الأول عنها وذراع قوتها وموسع نفوذها في العالم العربي؟
وهل كان تأسيس “حزب الله” ثم “الحشد الشعبي” وبقية الأذرع في المنطقة من أجل الاكتفاء بالمشاركة في المجلس النيابي، ومجلس الوزراء، والدفاع في وسائل الإعلام عن سياسة طهران؟
لا مهرب من فحص الأمور في العمق وأخذها جدياً. وليس في السياسة مرتبة اسمها السذاجة. فالمرحلة الحالية من الحرب يصفها الأمين العام الجديد لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم بأنها مرحلة “إيلام العدو”. الإيلام “حتى يقبل وقف النار”. ويكون أول من يصرخ. لكن الإيلام لا يحسم الأمور الاستراتيجية في المواقف. وما بعد الإيلام وحتى ما بعد وقف النار هو الاستمرار في مشروع المقاومة وفرض مصالحه على مشروع الدولة في مرحلة ما قبل “التمكين”، لأن مشروع الدولة نقيض مشروع المقاومة. وليس صحيحاً أن هناك لا مبالاة خارجية بحرب لبنان، باستثناء الاهتمام بالجانب الإنساني وإرسال المساعدات من أجل النازحين.
ولو صح ذلك لما كان المسؤولون وغير المسؤولين ينظرون بأمل إلى دور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأبعد من مؤتمر باريس، وينتظرون ما يقوم به الموفد الأميركي آموس هوكشتاين. الصحيح أن هناك مبالاة كاملة في عواصم مؤثرة بما يحدث على الأرض في لبنان ضمن تصور لعلاقة ذلك بقرار استراتيجي كبير يراد له نقل الشرق الأوسط من الفوضى والحرب إلى الاستقرار والتنمية. والكل يعرف أن القصف الجوي الإسرائيلي، مهما توحش وتكثف، لا يحسم حرباً، وأن القصف بالصواريخ والمسيرات، مهما ألحق من أذى بالعدو، لا يحرر أرضاً ولا يغير اللعبة الجيوسياسية.
والسؤال هو: هل يبقى لبنان فاصلة في سيناريو طويل مهم، ومجرد “ساحة” في صدام خطر بين المشاريع أم يكون لاعباً بين اللاعبين، له رئيس يتحدث باسمه، تدعمه كتلة شعبية تاريخية لاستعادة الوطن وبناء الجمهورية؟ لا رحمة بالضعيف طبعاً. لكن الأقوياء ليسوا أقوياء كما يدعون. مشروع إسرائيل الكبرى أكبر من قدرة إسرائيل والدعم الأميركي لها. ومشروع “إيران الكبرى” أكبر من إمكانات الجمهورية الإسلامية وأذرعها في المنطقة. مشروع الهيمنة الأميركية على العالم بات أكبر من الواقع الانقسامي في أميركا وأصغر من المتغيرات الدولية. مشروع الصين يحتاج إلى ما هو أكثر من “الحزام والطريق”. ومشروع روسيا يتطلب نصراً في أوكرانيا على الـ”ناتو” لا يضمنه جنود من كوريا الشمالية.
حين تراجع الرئيس باراك أوباما عن قصف دمشق التي تجاوزت خطاً أحمر رسمه لها، هو استخدام أسلحة بيولوجية قال، إن “إلقاء قنابل على شخص ما لإثبات أنك راغب في إسقاط قنابل هو أسوأ سبب لاستخدام القوة”.