يمثل الواقع المأساوي الذي انجرف لبنان، بكامل مكوناته، نحوه بفعل التطورات الأخيرة، على إيقاع رؤية “حزب الله” العقائدية، وسلوكه السياسي والميداني المستند اليها، حافزاً لاستيعاب جوهر الحزب، وتبيان حقيقة ما يعبّر عنه من خصوصية تتعدى مثيلتها لتنظيم سياسي تقليدي، لتتحول مفصلاً رئيسياً من مفاصل الواقع السلطوي اللبناني المهيمن، يتوقف على حسن استيعابه، وعلى استنباط الوسائل الفضلى للتعامل معه، مصير لبنان كمشروع وطن قابل للحياة.
كما في وسع كتاب “حزب الله والدولة” للنائب الدكتور حسن فضل الله، الصادر عام 2014، أن يشكّل وسيلة ملائمة للإضاءة على الجوانب المظلمة للحزب المتسمة دهاليزه بقدر لا يمكن إغفاله من الغموض والتورية.
اقرأ أيضا.. لبنان بين جحيمين.. نزاع حزب الله وإسرائيل يضاعف الأزمات الاقتصادية والإنسانية
الكاتب هو أحد الطليعيين في “حزب الله”، تولى مناصب متقدمة في أجهزته الإعلامية قبل أن يُكرس عضواً محورياً وناشطاً في كتلته النيابية، بوسع سيرته الحزبية أن تجعل كتابه أقرب إلى بيان عقائدي معبر عن استراتيجية الحزب أكثر منه خلاصة علمية لنشاط بحثي محترف. ما سنحاوله في هذه المقاربة هو استخلاص بعض الحقائق التي يتيحها الكتاب، وتبيان الدوافع الكامنة التي جعلت الحزب موضوعاً إشكالياً على الصعيدين المحلي والإقليمي، حتى لم يعد متاحاً أمام المتابع لمساره التزام الحياد حياله، مهما بلغ مستوى الموضوعية لديه.
بدءاً من كلمات كتابه الأولى يحسم الكاتب أن مفهومي الوطن والدولة لا يحتملان تعريفاً موحداً لدى كل الأفراد المعنيين بهما. هما، برأيه، متغيران يرتبطان بمنابع الثقافة والتراث والحضارة، وبالأصول الفكرية والحضارية التي تمتلكها كل جماعة تاريخية. هو يكتفي بإيراد هذا التوصيف الإشكالي كما لو أنه بداهة لا تستدعي شرحاً أو نقاشاً. بالرغم ممّا يترتب على التسليم به من اعتراف ضمني بأحقية كلّ جماعة تاريخية مساهمة في تكوين الوطن في أن تصوغ رؤيتها الخاصة حياله اعتماداً على مخزونها من المنابع الثقافية والتراثية والحضارية، ناهيك عن أصولها الفكرية والعقائدية المستقلة، والمتناقضة بالضرورة مع مثيلاتها لشركائها المفترضين في الوطن الذي يفترض أنه واحد، أو لنقل أنّه يجدر به أن يكون كذلك.
لا يطرح فضل الله فرضيته عبثاً. هو يعتمدها أساساً لشرعنة تمايز حزبه على مستوى الموقف والآداء، وللدفاع عن مشروعية حقه في صياغة سلوك متفرد حيال المؤثرات والتحديات التي تواجه الكيان اللبناني.
يكشف الكاتب في سياق كتابه أن حزبه يعتمد الفكر الإسلامي في نهجه العقائدي، ويبني على ذلك ليرصد خللاً بنيوياً إقليمياً مزمناً متأتياً من اندثار الدولة المركزية، المقصود هنا الدولة الجامعة لأقطار متعددة ينتشر في أرجائها الدين الإسلامي، وقد تَمثل تحققُها الأقرب، والأخير تاريخياً، بالدولة العثمانية المنهارة في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي. يعتمد على هذا التشخيص لمنح حزبه المؤدلج دينياً مبرراً يصوغ عبره رؤيته الخاصة لمفهوم الدولة. ذلك أنه يسعه في ظروف مماثلة، يفترض به ربما، أن يبتكر نسق الدولة الملائم له، والمنسجم مع تطلعاته.
متكئاً على البعد الديني يندفع الكاتب نحو العمق المذهبي، وهو مآل بديهي وحتمي لكل عصبية تعتمد على الغيب في ترسيخ هويتها، ليخلص إلى أن ثمة غبناً تاريخياً، امتد طيلة حقبات زمنية متتالية، لحق بالشيعة، أي بالجماعة البشرية التي يحتكر الحزب تمثيلها. هنا لا يعود التفرد، أو حتى التمرد، المفاهيمي مجرد حق تمارسه جماعة تاريخية استناداً إلى خصوصيتها، بل يصير نوعاً من الواجب الجهادي المقدس الذي يمثل التخلي عنه إخلالاً بالالتزام الديني.
ينحو الكتاب لاحقاً نحو سرد تفاصيل السياق التأريخي لعلاقة جماعته بالدولة في لبنان، ويخلص، مقدماً أدلة مقنعة، إلى إبراز عوامل وهن اعترت أداء الدولة اللبنانية في تعاملها مع الأزمات المتعددة التي واجهها الوطن المتشظي بجغرافيته الملتهبة وديموغرافيته المعقدة، ليشكّل ذلك مدخلاً نحو انبثاق “حزب الله” ليس بوصفه أحد الأحزاب التقليدية المنضوية ضمن الإطار المقونن الذي تتيحه الدولة، بل كشريك متقدّم يمارس على دولته حق الوصاية في الاستحقاقات المصيرية، مستنداً في ذلك إلى ما تتيحه له عقيدته من سلطة فوق زمنية يرفدها عجز الدولة عن مجابهة التحدّيات الملحّة بما تستحقه من حلول.
يستعين الكاتب بمقوّمات الفقه الشيعي الذي يلحظ وجود مرجعية تتربع على رأس الهرم السلطوي في غياب الإمام المهدي. وهي تتولى شؤون التكليف الديني للأفراد على قاعدة احترام خصوصيات المجتمع في إطار الدولة الناظمة لشؤونه. يقود كلّ ذلك إلى نظام الولي الفقيه الذي يجعل من جمهورية إيران الإسلامية مركز استقطاب لشيعة العالم من المؤمنين بالمرجعية. لعل أخطر الخلاصات التي يسوقها الكتاب تتمثل في كون “الالتزام بموجبات هذا الفقه ليس عملاً اختيارياً، بل هو في صلب التكوين الثقافي للفرد والجماعة على حدّ سواء”.
على مستوى الاستنتاج يؤول الأمر إلى أنّ الفرد الشيعي يخضع في شؤونه الحياتية إلى سلطتين تنعدم الصلة بينهما: هو يلتزم بالقوانين الرسمية المنظمة لشؤون الوطن الذي يعيش في أرجائه، فيما يعتمد على المرجعية الدينية في ما يخص التزامه الروحي والقيمي، وفي كل ما يتخطى تدابير عيشه المادي. بمثال توضيحي يتعين على المواطن اللبناني الشيعي أن يحصل على ترخيص من الدوائر العقارية الرسمية المختصة إذا رغب في بناء منزل، لكنه سيكون ملزماً بأن يتحمل صامتاً ما يترتب على أي حرب غير متكافئة، لم تقرها دولته، من خسائر مدمرة بوصفها استجابة فقهية للواجب الإيماني. ما يجعل الشيعة اللبنانيين أشبه بجالية إيرانية مقيمة في لبنان. ويحيل الأمر إلى فصام اجتماعي يعبّر عن نفسه في ما يشهده لبنان من حالة انعدام التوازن وفقدان السيطرة على استقرار مواطنيه الذين يخضعون غالباً، وعلى فترات زمنية متقاربة، إلى تجارب مؤلمة غير متوقعة، وغير مبررة أيضاً. ثم يكون عليهم أن يقتنعوا بأنّ ما يتعرضون له من مآس ومحن هو منح ربانية، وانتصارات إلهية. حتى عندما يخسرون ودائعهم المصرفية، وعندما ينفجر مرفأ العاصمة مطيحاً بنصف أبنيتها، وموقعاً نسبة هائلة من الضحايا الأبرياء، فإن الناس لا يملكون حينها ترف الاعتراض، وإذا تجرأ بعضهم على رفع الصوت مستنكراً أمكن اتهامه بكونه عميلاً للخارج، ومتآمراً على الوطن العامر بالقداسة.
لا يعترف “حزب الله” بكون إيران دولة إقليمية ساعية إلى مكانة طليعية في محيطها، وأنها تعتمد في تحقيق هدفها على بناء تحالفات فوقية مع قوى محلية نافذة في دول الإقليم يمكن تسييلها وفق صيغة تمنحها التفوق على جيرانها. هو يحرص على البعد الإيماني في توصيف ارتباطه العضوي بالأمبراطورية الطامحة الى استعادة أمجادها الغابرة، مضفياً لمسة روحانية على المشهد الذي يكتسب صيغة دموية يسهل إدراجها في خانة الثقافة الشيعية الزاخرة بتراث جهادي فائق الثراء. تراث استثنائيّ يبقى جديراً بالتقدير في الوجدان الجماعي حتى يتحول مادة استغلال واستثمار تتيح للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن يكتشف صلة أخوة مفاجئة مع الأميركيين. كما تسمح لكبير مستشاريه محمد جواد ظريف أن يوضح بثقة أن مقولة إزالة إسرائيل من الوجود هي مجرد سوء تفاهم ليس إلا.
بين الدين بوصفه عنواناً للسمو الروحي، وبين السياسة باعتبارها فنّ الممكن حتى لو كان استثماراً في الدين وتوظيفاً له، يبقى لبنان كائناً جغرافياً هجيناً يتأرجح بين وطن مكتظ بالأحلام وساحة ملآى بالركام.