غزة

حرب استنزاف أم إعادة تشكيل قطاع غزة جغرافيا

في فضاء الفكر الصهيوني، يمكن الاستنتاج، بشكل شبه أكيد، أن بنيامين نتنياهو سيواصل معركته لتنفيذ المشروع الصهيوني الأصلي الذي تمتد حدوده “من الفرات إلى النيل”.

ظهر مفهوم حرب الاستنزاف لأول مرة خلال الحرب العالمية الأولى، حين شنت فرنسا وبريطانيا عملية واسعة ضد التحصينات الألمانية على مستوى منطقة فردين وبلدة لاسوم الواقعتيْن شمالي فرنسا. تعد حرب الاستنزاف أطول الحروب بين العرب وإسرائيل، وهي أول صراع مسلح تضطر إسرائيل فيه إلى الاحتفاظ بنسبة تعبئة عالية ولمدة طويلة، وهو ما ترك آثاره السلبية على معنويات الاحتلال واقتصاد الدولة، خاصة أن قادة إسرائيل قد سبق لهم الإعلان للإسرائيليين أن حرب 67 هي آخر الحروب. ومازالت تخوض حربًا تلو الأخرى، وهي لا تعترف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته.

ما ينبغي استحضاره هنا هو دموية إسرائيل في غزة، فقد أهلكت إسرائيل الحرث والنسل، وما فتئت تعيث في القطاع خرابا ودمارا، ماضية في سياستها التدميرية دون الاكتراث بالقانون الدولي والضغوطات العالمية. لقد نجحت في نقل المعركة من غلاف غزة إلى قلب غزة، بفعل تفوقها العسكري واصطفاف العالم حولها، فرغم خسائرها العسكرية والبشرية، إلا أنها مازالت تسيطر على المعابر والحدود، وتتحكم في المساعدات الإنسانية وغيرها.

صحيفة لوموند الفرنسية أجرت تحقيقًا صحفيًا قبل عدة شهور، أوضحت في بدايته أن إسرائيل تقوم بهدم المباني في “المنطقة الأمنية” المتاخمة لحدودها مع القطاع، مما يحرم غزة بشكل دائم من 16 في المئة من أراضيها الزراعية، السلة الغذائية للقطاع. كما دمر جيش الاحتلال بشكل منهجي، على عرض كيلومتر واحد على الأقل، كل المباني على طول الحدود، وهي تقوم بإنشاء ممر عسكري يعزل مدينة غزة.

وليس في ذلك ما يُثير الدهشة، إنما الذي يضع العديد من علامات الاستفهام بحق، هو الموقف العالمي الذي عجز عن نصرة غزة منذ سنة تقريبًا. فلا شك أن إسرائيل مازالت تتلقى كل الدعم من الولايات المتحدة والغرب، وهو دعم مالي وعسكري وسياسي. في المقابل، حماس لا تتلقى أي دعم، سوى بعض الصواريخ التي تُطلق من جنوب لبنان ومن البحر الأحمر، وشتان بين هذا وذاك. لهذا لا يصح إطلاق ما يجري اليوم في غزة بحرب استنزاف ما دام لا يوجد توازن في القوى.

ينبغي التنبه إلى أن حرب مصر مع إسرائيل في عام 1968 حتى عام 1970 هي حرب استنزاف حقيقية مع اختلاف بسيط في العتاد لصالح إسرائيل. كانت مصر تتلقى الدعم من الاتحاد السوفييتي، أي من القطب الثنائي الذي كان يحكم العالم. أما اليوم، الوضع مختلف مع إيران. إذا ما قارنا الاتحاد السوفييتي مع إيران، الأخيرة محاصرة أمميًا، وتحاول أن تفرض نفسها كدولة لها حضور في المنطقة، لكنها لا تستطيع أن تفلت من عقالها. غير أن الحصار الأممي الجاثم على صدرها يجعلها في قائمة الدول المتأخرة، ولا يستطيع أحد أن يقارنها بالاتحاد السوفييتي وقت الحرب الباردة.

لهذا علينا أن نعي جيدًا بأن استمرار العدوان على غزة يدفع ثمنه اليوم المواطن الغزي، والصورة التي تُرسل من هناك خير دليل على ذلك. أما المشهد الآخر فهو في حال اشتعلت جبهة الشمال التي تلوح بها إسرائيل هذه الأيام. وتفجير أجهزة البيجر، دليل على أن إسرائيل ماضية في دحر حزب الله إلى ما بعد الليطاني. وهذا ليس تحليلًا وإنما ما صرح به قادة إسرائيل العسكريون والسياسيون على حد سواء.

اقرأ ايضا| غزة مشروع أمني والضفة مشروع استيطاني

في النهاية، ليس هناك مفر من المصارحة، بأن الولايات المتحدة لا تريد أن تتوسع رقعة الحرب وتمتد إلى الشمال، لأن من شأن ذلك دخولها الحرب، فتصبح حربًا دولية. فهي تريد إبقاء الحالة كما هي، تطلق يد إسرائيل لكي تدمر أكثر في غزة، وتقصف مواقع حزب الله في لبنان والحوثي في اليمن، ردًا على هجوم أذرع إيران في المنطقة.

ولكن في حال توسعت رقعة الحرب، فإن لأميركا قولًا مختلفًا، سوف تدخل الحرب بكل قوتها، وهنا سوف تصبح بيروت كما غزة اليوم. فويل بعد ذلك للدولة المنتصرة عندما يكتب التاريخ. بمعنى آخر، لو فرضنا جدلًا أن نيران الحرب شملت كامل الإقليم، وهذا وارد، لا يصنف ذلك منطقيًا حرب استنزاف، سوف تُحسم الحرب بشكل سريع، ويفرض حلولًا لا نتمناها.

في السياق ذاته، إسرائيل تريد جر الولايات المتحدة إلى المعركة، وإذا حصل ذلك، حُسمت المعركة لصالح إسرائيل والولايات المتحدة. ما أود إيصاله هو أن عاطفة روسيا والصين والعالم قاطبة مع حماس وحزب الله والحوثي، لكن السيوف مع الغرب وإسرائيل. هذه الحقيقة المرة التي لا يحب أحد أن يسمعها.

وإلى جانب كل ما تقدم، وفي فضاء الفكر الصهيوني، يمكن الاستنتاج، بشكل شبه أكيد، أن بنيامين نتنياهو سيواصل معركته لتنفيذ المشروع الصهيوني الأصلي الذي تمتد حدوده “من الفرات إلى النيل”، والذي حظي ويحظى بدعم كل الإدارات الأميركية، وأن غزة جزء من بوابة هذا المشروع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى