لمّا كانت مواقعُ إخباريةٌ وشاشاتُ بعض التلفزات وحساباتٌ في وسائل التواصل، بلا عدد، تتناقل، عصريّة أول من أمس وبعض مسائه، بهمّةٍ ظاهرة، أنباءً تتابعت عن سحب دولة قطر وساطتها لوقف إطلاق النار في غزّة، كانت أنباءٌ أخرى لم تُحرز حظّاً من اهتمامٍ مماثل، عن شهداء ومصابين جرّاء اعتداءٍ عسكريٍّ إسرائيلي على خيمةٍ في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط القطاع.
وعن خمسةٍ قضوا في قصفٍ إسرائيليٍّ استهدف منزل عائلة في مخيّم جباليا. وعن أربعة شهداء وعدّة مصابين في قصفٍ على خيمة نازحين قرب بلدة عبسان شرق خانيونس. وبالتوازي مع هذه الأنباء، ومثيلاتٍ لها قبل الظهيرة وفي المساء (إعدام ثلاثة أسرى غزّيين بعد الإفراج عنهم مثلاً!)، أذاعت الأمم المتحدة أن مجاعة وشيكة في شمال القطاع، ساعاتٍ قبل أن يُعلن المفوض العام لوكالة أونروا، فيليب لازاريني، إن هذه المجاعة محتملةٌ بشدّة، موضحاً أن إسرائيل حدَث أن استخدمت التجويع سلاحاً.
لم تعد أخبارٌ كهذه تلقى اكتراثاً واسعاً بها، وهي التي تنطق بأهوالٍ منظورة. وذلك لفرط “تقليديّتها”، فهي متكرّرةٌ يوميّاً منذ أزيد من أربعمائة نهار وليلة، وبمنسوبٍ من الفظاعات لا تحتملُه، في وقائع غير قليلة، أخيلةٌ ولا أعصاب. وقد بدا، أول من أمس، انسحاب قطر من وساطتها خبراً في وُسعه أن يكسر فائض الرتابة في تلك الأنباء، فانقطعت له ميديا عريضة، واشتغلت عليه وكالاتُ أنباءٍ عالميةٍ رفيعة، بل أحرز “الانسحاب” ترحيباً به فورياً من أوساطٍ إسرائيلية، وسارع فقهاء الكلام في أي شيءٍ إلى كشف المخفيّ في قرار الدوحة وقف وساطتها، مع حديثٍ مستفيضٍ في خيارات حركة حماس بعد أن انتهت حاجة الدوحة منها.
ليست هذه النوبة الأولى التي يشيع فيها ضجيجُ كلامٍ عن وقف قطر وساطتها وإغلاق مكتب “حماس” في الدوحة، ثم يتبيّن الخطأ والغرضُ فيه. مع أن الحكومة القطرية لن تضنّ على وسائل الإعلام بأي قراراتٍ تتّخذها في هذا الخصوص وذاك، وتعفي الجميع من مشقّة التخمين والكلام الفالت. ولعلّه ذا دلالةٍ أن قنواتٍ ووسائط في الميديا الإسرائيلية غالباً ما تكون المصادر الأولى لأنباء كهذه، ما لا يُخفي أن ثمّة امتعاضاً ظاهراً في دولة الاحتلال من شراكة الدوحة مع القاهرة وواشنطن في الوساطة المُتحدّث عنها.
فيما الأدعى (أو الأوْلى على الأصح) أن تنتفي الحاجة، في الأصل والأساس، إلى كل هذه الوساطة، إذا ما أخذ المستوى السياسي الحاكم هناك، وأعلن قراراً بوقف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة (70% من ضحاياه أطفال ونساء)، وذهب إلى صفقة تبادلٍ للأسرى، يتسلم بموجبها ناسَه المحتجزين لدى المقاومة.
اقرأ أيضا| هدنة الشمال: هل ستكون لغزة «نافذة الشمال»؟
هذا هو السبيل الوحيد للتخفّف من “التعب” الذي تُحدِثه وساطة قطر على الذين ينتظرون في إسرائيل توقّفها، وهم يعلمون، كما غيرُهم في كل العالم، أن أولوية الدوحة ليست إرضاء حكومة إسرائيل أو غيرها، وإنما وقفُ حربٍ فظيعة الآثار على الغزّيين العزّل مستمرّة منذ أكثر من عام، وأنها تتبنّى إنهاء الاحتلال ودعم حقوق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، وقد عبّر أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، عن موقفٍ متماسكٍ شديد الوضوح في هذا كله.
يُعلنها بكل صراحة الناطق باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، في تصريحه لوكالة الأنباء القطرية، مساء أول من أمس، أن الدوحة أخطرَت “الأطراف” قبل عشرة أيام، في أثناء المحاولات الأخيرة للوصول إلى اتفاقٍ بأنها ستعلّق جهودَها في الوساطة بين “حماس” وإسرائيل، “في حال عدم التوصّل إلى اتفاقٍ في تلك الجولة، وأنها ستستأنف تلك الجهود مع الشركاء عند توافر الجدّية اللازمة لإنهاء الحرب الوحشية ومعاناة المدنيين المستمرّة جرّاء الأوضاع الكارثية في القطاع”.
ولا يخفى في هذه اللغة أن الدوحة ليست متيّمةً بالوساطة المتكلّم عنها، وأنها متبرّمةٌ من عبثٍ مضجرٍ لا غرض منه سوى بيع الأوهام وتسويق صورةٍ مضلّلة، فالقول لدى الدوحة إما مفاوضاتٌ ذاتُ معنى، تُنهي الحرب التي أعطاها الأنصاري وصفها الحقيقي، أو لا ضرورة للمضيّ في لعبة لا نفع منها.
يُؤمل أن يُنهي تصريح المتحدّث باسم الخارجية القطرية لعبة ضرب السيوف في المياه، فلا يغيّبَ أحدٌ، في أي مكان، أن وقف الحرب الوحشية وجرائم العدوان على الغزّيين هو الموضوع والقضية، وأن هذا هو الهدف الجوهري لجهد قطر، في الوساطة وغيرها، وأن الدوحة ستُصارح الكلّ في هذا، فلا داعي للتّ والعجْن إياهما.