غزة

جدار جابوتينسكي في غزة

شهد العالم خلال الأسابيع الأخيرة نموذجين متناقضين من السياسات ، يمثلان موقعين نقيضين من مسيرة التاريخ، ويعكسان إيديولجيتين نقيضين تتصارعان على الشرق الأوسط ومسرح الحياة الدولية: إسرائيل بإبادة جماعية ممنهجة مثابرة لاتأخذها الرحمة بالأطفال والنساء والعجز.

بعد ورود أنباء عن فوز هان كانج – الروائية من كوريا الجنوبية – بجائزة نوبل للآداب، سألها والدها – الروائي هان سيونج وون – أين تريدين عقد مؤتمر صحفي للحديث عن الجائزة.

اعتادت نشر رواياتها مع تشانغبي وشعرها مع مونهاكدونغني، وكلاهما كان يأمل في استضافتها. في البداية، اعتقدت هان كانج، مؤلفة رواية The Vegetarian الحائزة على جائزة بوكر لعام 2016، والتي تبلغ من العمر 53 عامًا، أنها ستتحدث إلى الصحافة. ولكن بعد التفكير، أخبرت والدها أنه يجب أن يدلي ببيان بدلاً منها. وقالت للصحافة عبر والدها: “مع اشتداد الحرب في غزة وسقوط قتلى كل يوم، كيف يمكن أن نحتفل أو نعقد مؤتمراً صحفياً؟”

ومن اليابان منحت لجنة نوبل جائزة السلام هذا العام لمنظمة نيهون هيدانكيو “لجهودها من اجل عالم خال من الأسلحة النووية ولإثباتها من خلال شهادة الشهود أن الأسلحة النووية يجب ألا تستخدم مرة أخرى أبدا”. تم تشكيل المجموعة عام 1956 من قبل الناجين من القنبلتين النوويتين اللتين القتهما الولايات المتحدة على هيروشيما وناكازاكي.

وضعت اللجنة مهمتها منذ البداية حظر الأسلحة النووية وغيرها من الأسلحة المروعة. وكان من بين أنشطتها تنظيم فعاليات يوم هيروشيما في السادس من أغسطس/آب للتعريف بمخاطر هذه الأسلحة ؛ وفي المؤتمر الصحفي للمنظمة هذا العام، قال أحد الرؤساء المشاركين للمنظمة (الذي أصيب بالإشعاع الذري في هيروشيما وهو في الثالثة من عمره): “اعتقدت أن الجائزة ستذهب إلى أولئك الذين يعملون بجد في غزة.. في غزة، الأطفال ينزفون بين أيدي الآباء. غزة مثل اليابان قبل 80 عاما»

هذا الاختراق للعدالة الفلسطينية اطلع العالم على فاشية تمارس حرب الإبادة بالجملة . جموح العدوانية الصهيونية وشراستها غير المسبوقة استفزت ضمائر الملايين في جنبات العالم؛ باتت القضية الفلسطينية مركز الاهتمام وأبرز قضايا التحرر من الهيمنة الامبريالية والتطور الوطني المستقل لجميع شعوب المعمورة.

وهذا عامل هام وحيوي في صمود الشعب الفلسطيني متحديا حروب الإبادة تمد جذورها في الجدار الحديدي المطروح قبل ازيد من قرن لقهر الشعب الفلسطيني..

شهد العالم خلال الأسابيع الأخيرة نموذجين متناقضين من السياسات ، يمثلان موقعين نقيضين من مسيرة التاريخ، ويعكسان إيديولجيتين نقيضين تتصارعان على الشرق الأوسط ومسرح الحياة الدولية: إسرائيل بإبادة جماعية ممنهجة مثابرة لاتأخذها الرحمة بالأطفال والنساء والعجز؛ ومن جانب مضاد إيران وحزب الله يصونان الحياة الإنسانية ، إذ تدافع كل منهما عن السيادة والكرامة الوطنية .

يقابل هذا، ويتصدى له موقف إنساني يقصر رد فعله على المواقع العسكرية وهي خالية من البشر ، وذلك على الرغم من تأييد الجمهور اليهودي بما يشبه الإجماع للهمجية منفلتة العقال في قطاع غزة .

طرف يتمسك بالقيم الإنسانية التي درجت عليها البشرية وكانت بيارق الحركات التقدمية غبر التاريخ. على مدى التاريخ كانت قوى التقدم تحفل بالقيم الإنسانية وتثريها، توازن بها تصرفاتها؛ بينما قوى المحافظة والتخلف تبطش بغير حساب وبدون تردد. هكذا ازدحم التاريخ البشري بالمجازر الدموية

همجية كاسرة تصدر عن قوة احتلال تتصدى لمسيرة التاريخ؛ يرفع العسكريون الأميركيون الحواجب دهشة من درجة استخفاف عسكر إسرائيل بحياة الإنسان، الجيش الإسرائيلي “يبدو أن لديه عتبة أعلى للأضرار الجانبية… مما يعني أنه يضرب حتى عندما تكون فرص سقوط ضحايا من المدنيين أعلى”، كما كتب احد المعلقين العسكريين.

من المفارقات اللافتة تأكيد إسرائيل النية بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة من خلال إثبات قدرتها الفنية على تنفيذ هجمات مستهدفة، وأن تسوية مدن بأكملها بالأرض بقنابل تزن 2000 رطل ومذبحة عشرات الآلاف من الأبرياء كانت بمثابة اختيار سياسي.

إسرائيل منهمكة بقيادة نتنياهو في تطبيق وصية فلاديمير جابوتينسكي بصدد الجدار الجديدي بفلسطين. كشف نتنياهو عن خطة لحل القضية الفلسطينية على مثال النازية في حل قضية اليهود عن طريق الإبادة. يريد بهذه الوسيلة دخول التاريخ متفوقا على بن غوريون. تصرف نتنياهو من مفتضيات مشروع الجدار الحديدي الذي أوصى به فلاديمير جابوتينسكي وبن زيون نتنياهو قبل مائة عام وعام . إسرائيل ، تدعمها بدون تحفظ الولايات المتحدة ومنظومة دول الامبريالية لا تجهل مشروع الجدار الحديد ي.

مهمة الجدار الحديدي، وصية فلاديمير جابوتينسكي، اتخاذ إجراءات عنف من شأنها ان تغلق منافذ الأمل على شعب فلسطين فينصاع لمشيئة الصهيونية.

خطة جابوتينسكي –نتنياهو الأب افتلاعية إحلالية ، غير ان جابوتينسكي في حينه لم يلصق بشعب فلسطين صفة “أشباه الوحوش” أو “الإرهابيين” ، ولم يتذرع بخطر يتهدد، ولا استحضر “العماليق” من الأساطير الخرافية.

الفكرة الكامنة خلف الجدار الحديدي أن شعب فلسطين متمسك بالوطن ولا يتطوع بتسليمه للصهاينة؛ وعليه توجب الفكرة الصهيونية ان يتسلح أنصار الصهيونية ويفرضوا الوقائع بالإكراه على الأرض ، يحاصرون بها الوجود الفلسطيني. الجدارالحديدي يشيد بأساليب العنف والإبادة كالتي تجري في غزة ؛ وبهذا فنتنياهو يراوغ ويضلل إذ يدعي انه يقاتل في غزة “دفاعا عن النفس”.

نتنياهو وكل من يزعم ان إسرائيل تدافع عن نفسها لا يجهلون أن خطة العنف بفلسطين مبادرة صهيونية هي من متطلبات إقامة الدولة الصهيونية. وكل من يدعي مع الفاشية الصهيونية الحاكمة في الوقت الراهن أن إسرائيل بهمجيتها إنما “تدافع عن النفس” إنما يتستر على الجريمة اللاإنسانية .

عبّر الكاتب الصحفي الشجاع ، جدعون ليفي، عن يقين شاهد اطلع على التفاصيل إذ قال في حوار مع صحفي التقصي الأميركي ، كريس هيدجز، أن ” نتنياهو يمثل أيديولوجية راسخة للغاية.

لا يتعلق الأمر كله بمحاولته البقاء في السلطة والحفاظ على منصبه. لا، لا، وراء ذلك أيديولوجيا خطيرة للغاية، وهي عدم الإيمان بأي نوع من التسوية مع الفلسطينيين.

اقرأ أيضا| العدوان الإسرائيلي على اليونيفيل والإبادة شمال غزة

لم يؤمن بها قط، ويحاول رؤية الحروب كفرصة، فرصة لإنشاء شرق أوسط جديد، فرصة للضم، فرصة لطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين.” حقا فهذه هي الوسيلة التي استشرفها جابوتينسكي ونتنياهو الأب.

بادر جابوتينسكي بوضع مشروع الجدار وشاركه سكرتيره بن زيون نتنياهو. توفي جابوتينسكي عام 1943، وامتد العمر بنتنياهو الأب الى ان رأى ولده بنيامين يكمل المشوار وبين يديه أجهزة حكومة وتسنده قوة عظمى.

صرخ مرارا ضباط الأجهزة الأمنية، ورثة المغدور رابين ، الى أين يوصلنا نتنياهو بمواصلة الاستيطان ؟ ويجيبون: احتمالان بمثابة الكارثة؛ فإما ان يسمح للفلسطينيين بالتصويت وتضمحل الدولة الصهيونية أو نفرض نظام أبارتهايد يعزل إسرائيل دولة منبوذة .

اما نتنياهو الذي هزمهم جميعا ومضي يوسع الاستيطان بالضفة، فكان في خاطره المشروع الاقتلاعي من اختراع جابوتنسكي – نتنياهو.

ولهذا اتخذت الحر فب غزة طابع إبادة جسدية ومدرسية وطبية وثقافة، ومن ثم إبادة الهوية الوطنية، ليتحول بعد ذلك الى الضفة.

بشهادة الأكاديمي الأميركي المرموق هنري غيروكس: “ما يتم التغاضي عنه كثيراً، وخاصة في وسائل الإعلام الرئيسية، هو أن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة ليست مجرد اعتداء جسدي، بل إنها هجوم على التاريخ والذاكرة والمؤسسات الثقافية. إن هذا المحو هو جهد محسوب لإخفاء جرائم الحرب والعنف الوحشي وتاريخ الاستعمار الاستيطاني، وكلها مغطاة بقناع ’ فقدان الذاكرة التاريخية‘ “.

يشهّر غيروكس بهمجية تجتر ظلامية العصور فيقول” إن محاولات الدولة الإسرائيلية لتدمير التعليم في فلسطين هي جزء من مشروع أوسع لتدمير أي بقايا حركة التحرير في فلسطين”؛ ذلك هو الجدار الحديدي.

وكتب كريغ موراي، المناضل من أجل حقوق الإنسان، عمل دبلوماسيا بريطانيا و محاضرا جامعيا، كتب في 2أب / أغسطس 2024، ” بالنسبة لي، أصبح من البديهي الآن أنه لا يوجد حل الدولتين، وأنه يجب تفكيك نظام الفصل العنصري في إسرائيل بالكامل ككيان.

وأعتقد أن المزيد والمزيد من الناس في جميع أنحاء العالم يعتقدون ذلك الآن”.

خطة إسرائيل تدعمها الولايات المتحدة في الوقت الراهن تتركز في معاقبة الجماهير الغفيرة بالموت لأنها تتمسك بوطنها ، كما استشرف جابوتينسكي في حينه. يعرف هذا تماما بنيامين نتنياهو ومحور الامبريالية الذي يدعمه ويردد كالببغاوات ان همجيته “دفاع عن النفس”.

حتى بعد أن قضت محكمة العدل الدولية بأنه من “المعقول” أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، واصلت الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بأسلحة فتاكة، لإنزال الموت بالجملة وعلى نطاق واسع بين الأهالي كي يرفع الأيدي بالاستسلام .

الوحوش تهيج نزعتها الكاسرة حين يعضها الجوع، بينما البشر المتوحشون لا حدود لنزعة الكواسر في تصرفاتهم .

كل يوم خلال عام كامل، ويتجاوز الحول، بينما تنزل حاملات الموت الجماعي على المباني تهدمها على رؤوس المقيمين فيها ، نياما او يقظين لا فرق. إسرائيل ماضية في مهمة إبادة شعب حتى يسلم لإسرائيل وطنه بالكامل.

في حمى الإبادة الجماعية يدوس قادة إسرائيل على القيم الإنسانية المتعارف عليها والتي تنظم العلاقات بين القوميات والدول والشعوب؛ يرفضون الامتثال لقيم القانون الدولي والمواثيق الدولية وقرارات المنظمات الدولية والمحاكم لدرجة الانقطاع التام عن الواقع كي يفرضوا الإذعان على الشعب الفلسطيني.

لا يتوقف حكام إسرائيل عند عوائق او محظورات أو موبقات؛ يقذفون بمدافعهم قوة حفظ السلام الدولية ويضربون بالصواريخ مكاتب وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، ويغتالون موظفيها ويهدمون مدارسها ومشافيها وجميع المشافي وسيارات الإسعاف بالقطاع، يحظرون نشاط وكالة إغاثة اللاجئين في مناطق سيطرتهم، يرفضون قرارات العدل الدولية ويمارسون حروب القتل والتجويع ويمنعون وصول الأغذية والماء والمحروقات أينما امتدت أذرعهم ، جرائم حرب تتعاقب بالجملة كل يوم، بل كل ساعة من ساعات الليل والنهار، على مدار العام ، وتنتقل بكل توحشها الى لبنان.

كل ذلك يعرض يوميا على المشاهدين في قارات آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية فتعلن إسرائيل دولة مارقة ولا يرعوي حكام إسرائيل؛ يستهينون بالدول والشعوب، طالما يحظون برضى الولايات المتحدة الأميركية ويتلقون دعمها.

يعبر موراي في مقالته المنشورة يوم 2 أب الماضي، عن استغراب مشوب بالذهول: ” يبدو أن وسائل الإعلام الغربية مشلولة بسبب هذا، ولم أر أي تعليق أو تحليل جدي تقريبًا. كما لم يشر أحد إلى التناقض بين أكاذيب إسرائيل بشأن الاغتصاب الجماعي في7 أكتوبر/تشرين الأول(2023) ، وسياسة إسرائيل المعترف بها الآن والتي تتسامح مع اغتصاب المعتقلين.

في أوروبا وأميركا الشمالية يتركون الجماهير في تعتيم إعلامي ، حيث تمتنع الميديا عن التطرق لما يجري في غزة”. يتعمدون ترك إسرائيل كي تواصل حرب الإبادة. موقف عنصري لقومية البيض المسيحيين يزدري الشعوب الملونة ـ ومنها العرب والمسلمون. في اوروبا وأميركا تتصاعد موجة الفاشية مقرونة بدعوات التفوق العرقي للبيض وازدراء الملونين. انسجاما مع الموقف لا يرون غضاضة في الغرب الامبريالي إن انتهجت دولة مثل إسرائيل الفصل العنصري وفرضت نظام الأبارتهايد على غير اليهود.

في حرب الإبادة الجماعية تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة تبدو إسرائيل مقاول حروب بالمنطقة لصالح الامبريالية الأميركية ؛ الولايات المتحدة ، كدولة عظمى شاركت في وضع ميثاق الأمم المتحدة الذي يحث على تجنب الصدامات المسلحة والتدخل لإيقافها ، وكدولة تدعي ان مواد الميثاق الأممي مضمنة في دستورها،عليها ان لا تقف هذا الموقف المشين الداعم لحرب الإبادة بالجملة وتحمل دول أخرى على مساندتها ودعمها بالأسلحة عالية التقنية .

الحزبان اللذان يتناوبان على الحكم بالولايات المتحدة متفقان كليا في أمور السياسة الدولية، خاصة بالشرق الأوسط . السياسات الأميركية تدعم الفاشية والعدوان وانتهاك القانون الدولي الإنساني في الخارج.

وجدت الفاشية، التي تتغذى على الخوف والاستياء وتجريد “الآخر” من إنسانيته، تربة خصبة في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما أعقبها من إجراءات. فقد استغلت إدارة بوش تفجيرات أيلول كنقطة انطلاق لتوسيع المجمع الصناعي العسكري، وتآكل الحريات المدنية من خلال قانون الوطنية، وشن سلسلة من الحروب الظالمة.

وبدلاً من تعزيز القيم الديمقراطية، أصبحت أحداث 11 سبتمبر ذريعة لترويج الخوف، وزيادة المراقبة ، والقومية المفرطة، ما أرسى الأساس لصعود التطرف اليميني بالولايات المتحدة،ووأوروبا الغربية وإدامة ثقافة الخوف والاضطهاد

أشاعت الأعمال العدوانية للامبريالية الأميركية تحت قناع “الحرب على الإرهاب” العنصرية وكراهية الأجانب، حيث تحول المسلمون والمهاجرون إلى كبش فداء.

وفي غضون فترة قصيرة من الزمن، شملت الحرب سيئة السمعة على “الإرهاب” غزو العراق وأفغانستان، وإطلاق العنان للدماء والوحشية من الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا إلى العواصم الأوروبية الكبرى [و] أسفرت عن مقتل ما يقرب من مليون شخص و 38 مليون شخص من اللاجئين؛ .

أدى تآكل الحريات المدنية، والمراقبة الجماعية، وتوسع الدولة الأمنية إلى خلق إطار يمكن لليمين المتطرف البناء عليه؛ أنتشت البذور في ظل رئاسة دونالد ترامب، التي أخذت الاتجاهات الفاشية الكامنة في حقبة ما بعد 11 سبتمبر وقامت بتضخيمها.

يضيف الكاتب البريطاني، كريغ موراي: “تبدو الطبقة السياسية مشلولة أكثر من الطبقة الإعلامية.

إنهم عالقون في التزامهم بالصهيونية – التي تم شراؤها ودفع ثمنها – ليس لديهم ما يقولونه عن هذه الأحداث المذهلة أكثر منطقية من تعويذة كامالا هاريس الشبيهة بالزومبي ’حق إسرائيل في الدفاع عن النفس‘”.

لم تخجل دول الغرب كافة إذ بعثت الوفود تباعا الى لبنان ، بسادية وقحة يطلبون ترك غزة بين براثن القوة الهمجية. يخيرون لبنان على المكشوف بين خذلان قطاع غزة والشعب الفلسطيني في المحنة التي يكابدها، أو يلقى مصير غزة!

لا يقتصر التهديد على شعب لبنان ؛تلك الدراما التراجيدية غدت فزاعة يهددون بها شعوب قارات آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية إن هي تجاسرت وتحدت نظام الهيمنة الامبريالي . تردد “الوسطاء” على لبنان ينذرون ويبثون الرعب من مثال غزة لكي يؤلبوا على حزب الله ويفجروا لبنان بالفتنة الطاحنة .

لم يترك معسكر الامبريالية اي شك في تأييده المطلق لمخطط نتنياهو وتقديم الدعم المادي واللوجيستي والإعلامي والسياسي لمشروعه الجهنمي، بما في ذلك مكافحة مظاهرات الطلبة والجماهير احتجاجا على الحرب الهمجية في غزة ولبنان، واخيرا قدموا لإسرائيل وهي تهدد بضرب إيران، الصواريخ المضادة ، ثاد، كي تجسر على ضرب إيران .

هنا تتضح حكاية الذراع الطويلة تطول جميع بلدان المنطقة.

فلا غرابة ان تبلغ غطرسة الاستقواء لدى نتنياهو ان يصدر الأمر لأمين عام المنظمة الدولية ، غوتيريش، وكانه أحد أقنان سيده الأميركي، بإن يبعد قوات الطوارئ الدولية حالا، مستهينا بموقف أربعين دولة استنكرت الهجوم على القوات الدولية. أصدر الأمر للأمين العام للأمم المتحدة وهو يعرف أن صلاحيته محصورة في التوصية بذلك لمجلس الأمن.

ولكن ما شجعه على التعامل بازدراء مع المسئول الدولي الكبير، ليس مجرد غطرسته وهو يجد الحماية، بل تراجع المسئول الممي عن موقف اتخذه ضد حرب الإبادة الجماعية إ، إذ وجد نفسه بلا حماية من ضغوط آخرها التصريح الأخرق ” شخص غير مرغوب فيه” .

تراجع على خطو المتخاذل غولدستون ، خبير القانون الد ولي ، اؤتمن لرئاسة لجنة التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية ، فخان الأمانة .

غوتيريش صرح مرارا ان 7أكتوبر ليس البداية ، إنما سبقته جرائم إسرائيل ، وهاجم مرارا حرب الإبادة الجماعية؛ ثم نكص على عقبيه في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن وراح يندد بجريمة حماس في 7 أكتوبر 2023، وأغفل جرائم الإبادة الجماعية ، وردد فرية إسرائيل التي لم تقدم عليها دليلا، حين زعمت أن حماس اقترفت الاعتداء الجنسي يوم 7 أكتوبر.

تراجع غوتيريش تجت وطأة الضغوط ووضع نفسه في مأزق وجد نتنياهو جياله ان يصدر الأمر عبر التلفزيون وليس حتى في كتاب رسمي. لم يكن غولدستون وغوتيريش اول من تعرض لإرهاب الصهاينة.

المعروف ان الحركة الصهيونية بادرت بالإرهاب ضد الوجود البريطاني بفلسطين، رغم ما قدمه الانتداب لإقامة دولة إسرائيل.

طعن وزير خارجية الحكومة العمالية ، بيفن، ب”جوهر الاستراتيجية الصهيونية المتمثل في ضرورة وضع حد لأي تمييز بين مشكلة اليهودي والصهيونية السياسية”- والذي ما زالت تتكئ عليه لإرهاب منتقدي نهجها المتبع بفلسطين – ولذلك فإن “ما نتج عن كلمة القاها بيفن ، وزير خارجية بريطانيا، في 13 نوفمبر1948 وميز فيها بين اليهود والصهاينة كان سريعا قاسيا تمثل في حملة عالمية لتلطيخ سمعته، و تعريضه هدفا للاغتيال”.

هذا ما حفظه الأرشيف البريطاني ونقله الكاتب البريطاني توماس سواريز في مؤلفه “دولة الإرهاب : كيف قامت دولة إسرائيل بالإرهاب”ص137 .

وشخص أخر اضطهدته الصهيونية أورد ذكره توماس سواريز في معرض الإرهاب الصهيوني ؛ “استشاطت الوكالة اليهودية غضبا في اليوم التالي بعدما ندد رئيس الجامعة العبرية، ييهودا ماغنس، ’بالنزعة الشمولية المتنامية لدى اليهود‘، وعبر عن نقده الشديد للضغوط ’ المتصاعدة في أميركا للخضوع للشمولية الصهيونية، التي تسعى الى إخضاع الشعب اليهودي كله الى مذهبها‘؛ فما كان من الوكالة إلا ان لطخت سمعة ماغنس”.

وهناك من يربط بين شيطنة ماغتيس وبين وفاته بعد مدة قصيرة في ظروف غامضة.

في حمى حرب الإبادة بتأييد دول الغرب تجاسر نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل على أن يعلن على المكشوف “إعادة تشكيل الشرق الأوسط “. قال هذا وهو يوسع العدوان على لبنان ويهدد إيران ، ويهدد باغتيال المرجع الديني بالعراق، علي السيستاني وعلي خامنئي ! لم يصدر اعتراض ولا مجرد استغراب من أنظمة المنطقة ومن دول العالم التي تردد الحديث عن حقوق الإنسان.

واضح ان نتنياهو يعتمد على الولايات المتحدة ، ليس في التزويد بأحدث نظم التسلح وحسب ، بل المشاركة، باعتبارها صاحبة مصلحة ، بل المستفيدة الأولى من إحداث التغييرات والتبدلات عن طريق القوة المسلحة.

فقد ابلغ عن وصول اسراب من طائرات إف 16 الى المنطقة، وهي طائرات قاذفة استراتيجية ، ما يمكّن الولايات المتحدة من الهجوم على إيران وحلفائها ، مشاركة مع إسرائيل. ومؤخرا سمحت لابن الشاه المخلوع مخاطبة شعب إيران بلغة مؤثرة وأفكار الليبرالية الجديدة.

وقد يشمل العدوان اليمن بالتعاون مع بريطانيا ؛ وقد يباغت نتنياهو بحملة جديدة او إجراءات بمسوغ الرد على إيران.

نرى الولايات المتحدة تزيد وجودها العسكري بالمنطقة ” لكي تشعر دول الخليج بالأمان” ، وهي الدول المطلوب منها تقديم التسهيلات ، أراضيها وأجوائها وربما قواتها ، لضرب وإسقاط النظم غير المرغوب فيها، تنفيذا لأهداف “التخالف الإبراهيمي”.

العدوان الامبريالي على إيران يسوّق على العالم تحالف دول المنطقة. فكل عمل عسكري بهذا الحجم، يحمل مخاطر على أنظمة بالمنطقة لا يمكن تخيله بدون توفر جهود مشتركة بينها دول عربية.

احتمالات المستقبل

الولايات المتحدة لم تبق سرا رغباتها في تحطيم حزب الله في لبنان وتدمير النظام في إيران كي يستتب لها الأمر بالمنطقة وتمضي إسرائيل بدون عائق بعملية التطهير العرقي او الإبادة السكانية بفلسطين.

غير ان حزب الله ليس أضعف من حركة طالبان في أفغانستان أذاقت الغطرسة الامبريالية مرارة الهزيمة واضطرتها للهرب في حالة ارتباك ، مثلما حدث مع إسرائيل في الجنوب اللبناني عام 2000، وغام 2006 .

من أقوال أينشتين المأثورة “الغباء ان تكرر تجربة فاشلة ضمن نفس الظروف والملابسات” . اكثر من مرة اثبتت إسرائيل والامبريالية الأميركية انهما لا تتعلمان من دروس التاريخ. تدأب كل منهما على قطع الذاكرة التاريخية كي تمضي في ذات الدرب المهلك.

حتما سوف يتعرص الشعبان في لبنان وإيران لكوارث ، ولكن العدوان سوف يفشل لا محالة ؛ إرادة الشعبين للدفاع عن الاستقلال والكرامة لن تهزم.

والوضع الدولي الراهن لا يسمح بالاعتداء على السيادة الوطنية للدول يصعب التنبؤ بما يضمره نتنياهو للضفة بعد تعثر محولته في غزة؛ فهو يضن بمعلوماته على مجلس وزرائه وحتى على الكابينت المصغر.

ولكن لن يستغرب استغلاله الحرب مع إيران كي يدخل الضفة الغربية في جحيم الإبادة الجماعية، يطوقها بجدار جابوتينسكي،. لا مانع من تكرار ان نتنياهو لا يتعظ من تجارب الفشل، خصوصا وتهجير السكان عملية جارية في مسافر يطا ، جنوب الخليل ، وفي الأغوار ومخيمات اللاجئين.

وتحت إشراف حكومة نتنياهو ينفذ المستوطنون بالضفة هجماتهم الدورية على القرى والبلدات يدمرون المزروعات والأشجار والمساكن. وتمعن دول أوروبا الامبريالية في التواطؤ بالتستر على رعاية حكومة نتنياهو الفاشية لجرائم المستعمرين، فتصدر “إنذارات” أو “عقوبات” على أفراد تحملهم مسئولية الاعتداءات.

يقول جدعون ليفي من مطالعاته “والتيار السائد يدعو إلى تجويع غزة حتى الموت” ، ويقلقه ان جماهير الضفة ستلقى نفس المعاملة ، فيضيف:” لقد أصبح جزءًا من الخطاب، وهو جزء من الخطة الشاملة لأولئك الذين يعتقدون، على حد تعبيرهم، إما نحن وإما هم. ونحن نفضل أن نكون نحن وليس هم، وإذا لم نتمكن من العيش معًا، فسنكون نحن من سيبقى هنا، وسوف يختفون أو يُقتلون أو يُطردون أو يُنقلون، أو أيًا كان. ولكن لا يوجد حل آخر”.

قناعات راسخة وليدة تربية منذ سني الطفولة ، وفي المدرسة والحياة الاجتماعية والسياسية.

عرج الحوار بين هيدجز وليفي على احتمالات المستقبل فدار الحديث كالتالي: يقول ليفي،” أنا خائف جدًا من أن ما حدث لأصحاب البلاد في أميركا قد يحدث للفلسطينيين. ستصبح الأمور طبيعية وشرعية، وسيكون من الواضح جدًا أن العالم يعيش بسلام مع دولة فصل عنصري معلنة بوضوح، وهي محبوبة الغرب.

قد يحدث هذا، ونحن لسنا بعيدين عن ذلك. ومن ثم فإننا نعيش حقًا إلى الأبد في دولة فصل عنصري مع كل العواقب. لا أستطيع أن أرى سيناريو أكثر احتمالا من هذا الآن”.

يرد هيدجز:”إسرائيل تقوم بعملها ليس بقتل 90%[ يقصد ان البيض بالولايات المتحدة أبادوا 90% من سكان البلاد الأصليين] ولكن في غزة…”

يجيب ليفي: ” أعتقد أننا قتلنا بالفعل، في هذه الحرب، إذا لم أكن مخطئاً، قتلنا 5%. أننا حقًا نكسرهم كشعب. لا نحتاج بالضرورة إلى قتلهم جسديًا، ولكننا نقتل أرواحهم. احنا نقتل… ترى لازم يكونوا ناس مكسورين. ولا يقتصر الأمر على القتل الجسدي فحسب، بل إنه أيضًا القتل الوطني، وقتل الروح، وقتل الأخلاق، وقتل القيم، وقتل كل ما هو إنساني. لذلك نحن على الطريق الصحيح”.

حقا “إسرائيل فقدت إنسانيتها، في منزلق الانتحار الجماعي للدولة الصهيونية” كما يقول ليفي، لكنه يعبر عن جانب أخر نقيض في المشهد الإسرائيلي ، ” أعني أنني لا أعرف شخصًا واحدًا في العالم يتساءل حتى، هل ستوجد هذه الدولة خلال 20 عامًا. المكان الوحيد على وجه الأرض الذي يُطرح فيه هذا السؤال هو إسرائيل من قبل الإسرائيليين.

أولئك الذين كانوا على يقين قبل يومين بأننا على قمة العالم لأننا قتلنا خمسة من قادة حزب الله. ثم سألوا أنفسهم هل سننجو؟ هل سنكون موجودين؟ إنها محرقة أخرى. ماذا سيكون؟ وهذا لا يمكن تحليله إلا من قبل طبيب نفسي”.

الطبيعي ان الجمهور يراكم خبراته من التجربة الذاتية ، على الأقل نصف الخبرات والنصف الثاني يتمثله نقلا او تعلما بحيث تتطابق مدخلات المصدريْن، أو تتكامل.

في إسرائيل، ومنذ أن جادت الامبريالية البريطانية في عشرينات القرن الماضي ب”الوكالة اليهودية” ، حكومة ذاتية تدير شئون الوسط اليهودي، تتولى الصهيونية وظيفة تعليم الناشئة، تصب بالإكراه وتحت التهديد بالقتل، التعصب والشمولية (الصهيونية رديف لليهودية، بينما خصومها من اليهود “اليهودي كاره نفسه”) وكراهية العرب ، خاصة الفلسطينيين. شيطنة العنصر الفلسطيني إحدى مسلمات الوعي الصهيوني.

وجدت الصهيونية في الاشتباكات المسلحة أكتر من فائدة ، وسيلة للتوسع الاستيطاني وتعطيل تطور حركة سياسية بفلسطين. بينما تفتضي استراتيجيا الصهيونية تعبئة الجماهير وتثقيفها وتربيتها سياسيا وفكريا، فقد استمرت الأمية السياسية في أوسع أوساط الشعب الفلسطيني.

وهذا يعتبر احد الموانع بوجه توحيد الفصائل السياسية الفلسطينية في جبهة موحدة وفقا لما يلح عليه أصدقاء الشعب الفلسطيني.

والمهمة الماثلة الأن تلح على ضرورة تلافي هذا النقص والإسراع في تربية الكوادر القادرة على الاقتراب من الجماهير واكتساب ثقتها باعتبار هذه الكوادر العتلة لتحريك الجماهير الشعبية من بياتها وتطوير حركة شعبية ديمقراطية للتحرر الوطني. يستحيل إلحاق الهزيمة باحتلال اجنبي بدون حركة جماهير واعية ومنظمة.

تمارس الضغوط الإقليمية والدولية لوقف العدوان الإسرائيلي من اجل التهدئة والاستقرار بالشرق الأوسط ، ويعقب وقف الحرب وقف العمليات المسلحة كافة، ولا سيما على الأراضي الفلسطينية.

قد يغض الطرف الامبريالي النظر عن بقاء بعض السلاح بأيدي منظمات فلسطينية بدافع خبيث؛ ادعاء انتهاكات يمن جانب الفلسطينيين كي يستأنف الحرب وقتما يشاء. لن يكف الصهاينة عن افتعال الصدامات المسلحة حتى إنجاز جدار جابوتينسكي.

وهذا يوجب اليقظة الحزم في تطوير المقاومة الشعبية. الصهيونية عامل اضطراب وعدم استقرار الى ان تكنس من المنطقة مع الامبريالية.

يمكن استئناف مسيرة التاريخ القديم بتعايش مختلف الأديان والطوائف في هذه البقعة ، غير ان المستحيل التعايش مع الصهيونية ونفوذها على دولة إسرائيل.

ربما تطارد الفلسطينيين وتعمل على تحريم اسم فلسطين ومشتقاته باعتباره لاسامية؛ والاحتمال الأكثر مطابقة لمسيرة التاريخ ان تكنس الصهيونية مع الامبريالية بالنضالات المشتركة لشعوب المنطقة وشعوب العالم.

حقا ما توصل اليه الكاتب البريطاني كريغ موراي: ” بالنسبة لي، أصبح من البديهي الآن أنه لا يوجد حل الدولتين، وأنه يجب تفكيك نظام الفصل العنصري في إسرائيل بالكامل ككيان.

وأعتقد أن المزيد والمزيد من الناس في جميع أنحاء العالم يعتقدون ذلك الآن”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى