مثل العديد من الدول الأخرى، شهدت تونس خلال السنوات الأخيرة ازدهارًا في التجارة الإلكترونية، وبشكل لافت منذ الجائحة خاصة على تطبيقات التواصل الاجتماعي، إذ لم يكن غالبية التونسيين قبلها يثقون في إجراء عملية تجارية افتراضية. اليوم مع انتشارها برزت مشاكل عديدة أبرزها الغش والتحايل حسب تقارير صادرة عن جهات محلية، مثل منظمة الدفاع عن المستهلك.
لماذا ينتشر التحايل التجاري الرقمي؟ وكيف يمكن للدولة التدخل للحد من ظاهرة تضيع عليها فرصًا كثيرة للاستفادة منها، بما يخدم اقتصادها المتعثر؟
هذه السوق تقدم إمكانات كبيرة للنمو لأيّ بلد. ورغم أن نطاقها توسع مع تطور أساليب الدفع والتقنيات المتقدمة، إلا أنها لا تزال تمثل جزءًا صغيرًا من التجارة التونسية، حيث لا تتجاوز 300 مليون دولار سنويًا في المتوسط، بعد تتبع المؤشرات منذ عام 2020 ولغاية 2023. ومع ذلك، فإنه في سياق زيادة انتشار الإنترنت، وعدد مستخدمي الشبكات الاجتماعية النشطين، فإن للبلد الأدوات اللازمة لتطويرها وجعلها مُراقبة ومقننة بشكل عملي بحيث تستفيد الدولة ويستفيد التجار والمستهلكون وتستفيد كل القطاعات المرتبطة بها.
ثمة نقاط رئيسية يجب تذكّرها عند الخوض في مسألة بناء تجارة إلكترونية مفيدة للاقتصاد. فمنذ عام 2000، قامت تونس بإصلاحات من أجل الاستفادة منها بشكل خاص من خلال اعتماد إطار قانوني لتسهيلها. وفي عام 2007 أنشأت السلطات المجلس الإستراتيجي للاقتصاد الرقمي، وأصدرت قانون التوجيه المتعلق بتأسيس الاقتصاد الرقمي. وتم تعزيزهما من خلال تطوير الخطة في عام 2014 تحت اسم “تونس الرقمية 2020” لجعل قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات محركًا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
الآن، أمام البرلمان مشروع قانون لتنظيم هذه التجارة، وتحديدًا تلك المتداولة على الشبكات الاجتماعية. هذا القانون يعتقد المشرعون أنه سيقطع الطريق أمام المحتالين، فثقة المستهلكين في أمان المدفوعات الرقمية أحد التحديات الأساسية، والتي تفرز أحيانًا مستوى معينًا من عدم الرضا، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى مقاومة البعض لهذه التجربة. بالتالي يشكل إعادة بناء الثقة وتعزيزها من خلال ضمان أمن المدفوعات عبر الإنترنت وزيادة الوعي بالتدابير الوقائية التي تنفذها منصات البيع أمرًا بالغ الأهمية.
بالعودة إلى الأرقام التي ساقتها منظمة الدفاع عن المستهلك قبل أيام حول الغش التجاري الإلكتروني، بعد أن رصدت ما يقرب من 231 عملية عبر شكاوى تلقتها، أي 40 في المئة من إجمالي الشكاوى التي وردتها خلال أول عشرة أشهر من 2024، فإنها مهمة لكنها لا تبدو مفزعة أو تدعو إلى الخوف إذا ما افترضنا أن الآلاف من العمليات تمت بنجاح خلال هذه الفترة، فحالات التحايل والغش تحصل باستمرار في كل بلدان العالم، ولا يشكل الرقم المسجل نقطة في بحر المشاكل في بلدان أخرى. الأمر سيكون مقلقًا إذا ما كانت قيمة المشتريات عالية، وحجم الضرر أكبر من قيمة السلعة نفسها.
اللافت في الأمر ليس الغش في حد ذاته، إذ لدينا تجارة إلكترونية في تونس، وفي نفس الوقت ليست إلكترونية. كيف ذلك؟ عندما تدخل مثلًا إلى حساب على فيسبوك يعرض منتجات واخترت شراء سلعة ما، فإن الاتفاق يتم افتراضيًا، لكن الدفع يتم نقدًا حينما يطرق بابك مُوصل الطرود إلى المنازل ليسلمك ما طلبته. الصدمة هنا عندما يكون المنتج ليس كما هو معروض في الصور عبر منصة البائع، مما يصعّب عمليات تتبع مثل هكذا عمليات والتي تتم بعيدًا عن المراقبة. وتشير التقديرات إلى أن نسبة العمليات التي تتم دون محافظ رقمية تحوم حول 70 في المئة. وهذا فعليًا رقم كبير.
لذا، فإن مسألة إجراء دراسات دورية لتقييم المخاطر المرتبطة بالتجارة الإلكترونية من كافة الأطراف مهمة بقدر أهمية جمع الشكاوى ووضعها في جداول بيانية من باب المعرفة بالشيء، لأنها تعطينا فهمًا أوسع يمكن أن يساعد على فهم جذور المشكلة واتخاذ التدابير اللازمة، والتي ستكون مترابطة مع مسار تعزيز الشفافية في المعاملات عبر الإنترنت، مثل تقديم معلومات واضحة حول المنتجات، واستجابة الشركات لما لها من فوائد تسهم في تقليل ظاهرة الغش في التجارة الإلكترونية وحماية حقوق المستهلكين.
إقرأ أيضا : أوروبا وأوكرانيا في خطر إذا منح ترمب بوتين انتصار
إحدى الفرص المثيرة للاهتمام تكمن في البيع والشراء الرقمي عبر الحدود. ومن شأن بناء منصات فعّالة أن تسهل مثل هذه التبادلات التجارية الدولية. ومع أن تونس تفتخر بوفرة المنتجات الحرفية والمصنعة عالية الجودة والتي يمكن تصديرها، لكنها متخلفة قياسًا بمحيطها الإقليمي وتحديدًا أوروبا، ومحيطها العربي وخاصة مع بلدان الشرق الأوسط بسبب القيود التنظيمية والصعوبات في الوصول إلى حسابات العملات الأجنبية وبطاقات الائتمان الدولية.
هذا الوضع في المطلق يحد من توسع مواقع البيع التونسية عبر الإنترنت في الأسواق الأجنبية. وفي مواجهة هذا الوضع الذي يجعل البلد في مراتب متأخرة على مؤشر التجارة الإلكترونية الذي يصدر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، فإن الضرورة تقتضي تحسين تنظيم المدفوعات الرقمية، وتعزيز قابلية التشغيل البيني لوسائل الدفع، وسيكون تبسيط الإجراءات الجمركية والقيود وتعزيز التعاون بين السلطات الحكومية دافعًا أساسيًا لتطوير هذا المجال وتطويعه خدمة للتنمية.
في الواقع، لا تزال تجارتنا الإلكترونية خارج التغطية رغم ما بُذل من جهود جبارة على مدار قرابة ربع قرن حتى تكون تونس دائمًا في حلبة المنافسة، ولكي نتفادى المشاكل المنجرة عنها في المستقبل باعتبارها أداة رئيسية لتوليد الثروة مثلها مثل أيّ قطاع إستراتيجي آخر، فما على الفاعلين في المجال سوى وضع اليد في اليد من أجل العناية بدجاجة ستدر بيضًا ذهبيًا دون توقف إن أحسنّا إطعامها!