تكتسب منطقة القرن الإفريقي أهميةً استراتيجيةً بالغة، بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يُشرف على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، ومِن ثمَّ التحكُّم في طرق التجارة الدوليَّة، لا سيَّما تجارة النفط المتدفقة من الخليج العربي إلى أوروبا والأسواق العالميَّة، فضلاً عن الموارد الاقتصاديَّة والثروات المعدنيَّة التي تضمّها المنطقة في بواطنها، مما جعَلها بؤرةً للصراع ومركزًا للتنافس بين الأقطاب الدوليَّة الكبرى، الساعية إلى تكريس نفوذها السياسي والاقتصادي وضمان حصتها من الثروات النفطيَّة والمعدنيَّة.
وتُعدّ الصين، بوصفها قوةً عالميَّةً صاعدة، أحد هذه الأقطاب الدوليَّة التي أظهرت اهتمامًا بالغًا بشرق إفريقيا، والقرن الإفريقي على وجهٍ خاصّ، لما تُمثِّله من عامل جذب قويّ بالنسبة للصين في إطار صعودها الاقتصادي وجهودها لترسيخ مكانتها كفاعلٍ مؤثرٍ في القارة الإفريقيَّة.
وفي هذا السياق؛ تسعى الصين إلى تطوير وسائل أكثر جاذبيَّة لضمان تحقيق أهدافها الاقتصاديَّة وتعظيم نفوذها السياسي والعسكري في القرن الإفريقي، عن طريق اعتمادها خيار القوة الناعمة كأحد أدوات تنفيذ سياستها الخارجيَّة، وهي القوة التي تستهدف التأثير على تفضيلات الآخرين وسلوكهم وتشكيل قناعاتهم؛ بهدف تحقيق المصالح والأهداف المرجوة، من خلال الإقناع والجاذبيَّة لا عن طريق العنف والإكراه. ويعود استخدام مصطلح القوة الناعمة في السياسة الدوليَّة إلى العقد الأخير من القرن الفائت، عندما صاغه لأول مرة المفكر الأمريكي وأستاذ العلوم السياسيَّة «جوزيف ناي Joseph Nye»، ثم انتشر على نطاقٍ واسعٍ، وأصبح أحد المفردات المهمة في تحليل السياسة الخارجيَّة.
ونظرًا لتنوع أهداف ومصالح السياسة الخارجيَّة للصين في منطقة القرن الإفريقي ما بين أهداف سياسيَّة، واقتصاديَّة، وأخرى عسكريَّة؛ فإنَّ تحقيق مثل هذه الأهداف يقتضي بدَوْره تنوعًا في أدوات وعناصر القوة الصينيَّة الناعمة، من أجل التأكيد على جاذبية الصين وقدرتها على موازنة النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة، وبما يضمن تعزيز الشراكة الإستراتيجيَّة بين الصين ودول القرن الإفريقي، ويدعم نهوضها على المسرح الدوليّ، سياسيًّا واقتصاديًّا.
القوة الناعمة في الإدراك الإستراتيجي الصيني:
تُعرف القوة الناعمة بأنها أحد أشكال القوة التي تَستهدف التأثير على تفضيلات الآخرين وسلوكهم في إطار العلاقات الدوليَّة؛ بغرض تحقيق المصالح والأهداف المرجوة؛ من خلال الإقناع والجاذبية لا عن طريق القوة والإكراه. ولا يعني استخدام القوة الناعمة في السياسة الخارجيَّة تجاهل القوة الصلبة؛ إذ إنَّ القوة الصلبة والناعمة مترابطتان ولا يمكن الفصل بينهما، كما أنهما تشكلان معًا ما يُعرف بالقوة الشاملة للدولة.
وقد عرفت اللغة الرسميَّة للصين مصطلح القوة الناعمة في تسعينيَّات القرن الماضي، عندما نُشرت مئات المقالات الأكاديميَّة في جمهورية الصين الشعبيَّة حول القوة الناعمة، وكان الرئيس الصيني الأسبق «هوجنتاو Hu Jintao» في خطابه أمام المؤتمر القومي السابع عشر للجزب الشيوعي الذي عُقد في أكتوبر 2007م، قد شدَّد على ضرورة أن يدعم الحزب الشيوعي الصيني الثقافة بوصفها جزءًا من القوة الناعمة الصينيَّة من أجل تحقيق القوة الوطنيَّة الشاملة. وثمة اعتقاد واسع النطاق في الصين، مؤداه أنَّ الثقافة التقليديَّة تُشكِّل مصدرًا هائلاً لتفعيل القوة الناعمة في السياسة الخارجيَّة، من خلال جاذبيتها الروحيَّة والفلسفيَّة التي تقوم على التأمل والانسجام والسلام الداخلي؛ فالدولة إذا كان لديها ثقافة مرغوب فيها، فإنَّ ذلك سيدفع بقية الدول الأخرى إلى مُحاولة اتباعها.
ومما يجدُر ملاحظته بشأن مفهوم القوة الناعمة في الإدراك الإستراتيجي للصين، أنه لا يقتصر في تطبيقه على العلاقات بين الدول فحسب، بل يتَّسع ليشمل طبقات المُجتمع أيضًا لإظهار الرضا بالنظام السياسي والاقتصادي، وتأييد سُلطة الحزب الشيوعي، فضلاً عن ذلك، فإنَّ مواقف الصين في القوة الناعمة دفاعيَّة، على عكس أفكار “ناي” التي تحُثّ الولايات المُتحدة وتُشجّعها على اتخاذ سياسات استباقية.
وتتجسَّد القوة الناعمة الصينيَّة في مجموعةٍ من العناصر؛ يأتي في مقدمتها: الثقافة الصينيَّة التي لها جذور قديمة وراسخة، وتصون الانسجام في المجتمع، وتُناغم الحداثة دون فقدان الهوية، وأيضًا معاهد كونفوشيوس Confucius Institutes التي تستهدف تعزيز فهم اللغة والثقافة الصينيَّة في الخارج، وهناك أيضًا المُساعدات والاستثمارات الخارجيَّة بنوعيها التنموي والمالي، وأخيرًا تُمثِّل قوات حفظ السلام أحد عناصر القوة الناعمة الصينيَّة؛ حيث شاركت الصين في كثيرٍ من عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المُتحدة في العديد من الدول، ولا سيَّما الدول الإفريقيَّة.
وخلافًا للقوة الناعمة في السياسة الأمريكيَّة؛ فإنَّ القوة الناعمة من منظور السياسة الصينيَّة لا تدعو إلى التدخل في الشؤون الداخليَّة للدول أو انتهاك سيادتها، لكنها تدعو، عوضًا عن ذلك، إلى احترام استقلال الدول ووحدة أراضيها وتفعيل الحلول السلميَّة في تسوية النزاعات واحترام قواعد القانون الدوليّ ومبادئ الأمم المتحدة، كما تدعو أيضًا إلى تعزيز الشراكة الاقتصاديَّة والعمل على إرساء قواعد نظام دوليّ مُتعدد القوى.
وفي سياق تعزيز قوتها الناعمة، أنفقت الصين مليارات الدولارات في مجال الدعاية الخارجيَّة، وتجسَّد ذلك في إنشاء برنامج المساعدات الصيني لإفريقيا وأمريكيا اللاتينيَّة، وهو برنامج غير مُقيَّد بمخاوف مؤسساتية أو مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، الأمر الذي عكس نظرةً ايجابيةً تجاه التأثير الصيني في هذه المناطق وفي إطار مواجهة القوة الناعمة الأمريكيَّة، اتخذت الصين، بناءً على توجيهات الحزب الشيوعي الذي انعقد عام 2011م، قرارًا بوقف نحو 88 برنامجًا من بين البرامج التليفزيونية الأمريكيَّة والغربيَّة التي كانت تُبَثّ على شبكات التليفزيون الصيني، كما تبنَّت الصين إستراتيجية المواجهة الثقافيَّة والسياسيَّة وإستراتيجية الاستثمار في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني والإعلامي والتعليمي كما اتخذت الحكومة الصينيَّة مجموعةً من التدابير، كان الهدف منها تحصين شبكة الإنترنت الصينيَّة ضد مُحاولات الاختراق المتكررة التي تستهدف إضعاف الصين وتقسيمها وفق ما صرَّح به الرئيس الصيني الأسبق «هوجنتاو».
وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ القوة الناعمة الصينيَّة ليست قويةً بما يكفي، فالتأثير الثقافي للصين يقتصر فقط على دول الجوار الجغرافي في شرق وجنوب شرقي آسيا، بينما لا يزال تأثيرها الثقافي في المناطق الأخرى من العالم محدودًا للغاية.
وعلى صعيد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، فإنَّ القوة الناعمة الصينيَّة عاجزة حتى الآن عن مقارعة نظيرتها الأمريكيَّة، والسبب في ذلك كما يرى جوزيف ناي، الاعتقاد الخاطئ من جانب الصين أنَّ الحكومة هي المصدر الأساسي للقوة الناعمة، في حين أنَّ القوة الناعمة تنبع من الأفراد والمُجتمع المدني والقطاع الخاص، ولذلك تأخذ الحكومة الصينيَّة على عاتقها مسؤولية الترويج لرموزها الثقافيَّة، اعتقادًا منها أنَّ ذلك سيحقق لها شهرةً واسعةً.
إقرا أيضا : لهجة ترامب بين الليونة والصرامة
ويمكن اعتبار غياب المنظمات غير الحكوميَّة الصينيَّة على الساحة الدوليَّة بمثابة نقطة الضعف الأساسيَّة في تطبيق الصين للقوة الناعمة، وهو ما يَحرمها من أداةٍ مهمةٍ للقوة الناعمة، وتدرك الصين نقطة الضعف هذه، ولهذا السبب تريد تغيير النظرة إلى المؤسسات المُختلفة باعتبارها وكالات تزعم أنها أنشئت خارج سيطرة الحكومة.
نخلص مما تقدم إلى أنَّ القوة الناعمة تشغل حيّزًا كبيرًا من اهتمام دوائر صنع القرار في جمهورية الصين الشعبيَّة، ويرجع ذلك إلى إدراك القيادة الصينيَّة أنَّ التغيرات الدوليَّة فرضت تحديات جديدة قد يصعب الاستجابة لها باستخدام القوة الصلبة وحدها، والتي أثبتت الممارسة الدوليَّة أنها ليست على الدوام وسيلةً للنجاح في السياسة الخارجيَّة، غير أنَّ مخرجات الدبلوماسيَّة الناعمة الصينيَّة لا تزال بعيدةً في تأثيرها وقوتها عن نظيرتها الأمريكيَّة، الأمر الذي يستوجب من الحكومة الصينيَّة تكثيف جهودها في هذا المضمار، من خلال تطوير مصادر وأدوات جديدة لقوتها الناعمة، في سبيل تأمين مصالحها الحيوية وتحقيق قوتها الشاملة.
الأهمية الإستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي:
تستأثر منطقة القرن الإفريقي بأهمية إستراتيجيَّة كبيرة، جعلت من هذه المنطقة مركزًا للتنافس وبؤرةً للصراع الدائم، سواءٌ بين الأقطاب العُظمى، أو القوى الإقليميَّة.
تتألف منطقة القرن الإفريقي، جغرافيًّا، من الهضبة الإثيوبيَّة التي تنبسط بتجاه الجنوب والجنوب الشرقي ناحية الصومال وكينيا، والهضبة الصوماليَّة التي تمتدّ على شكل مثلث غير منتظم، ويفصل بين الهضبتين وادي أوغادين ووادي الهود الذي يمتد ناحية الشمال بمُحاذاة البحر الأحمر.
ويضم القرن الإفريقي كلًّا من الصومال، إثيوبيا، إريتريا، وجيبوتي، ولقد سُـمِّي بهذا الاسم كونه يشبه قرن «وحيد القرن»؛ حيث يحدّه شمالاً البحـر الأحمـر ومـن الشمال الشرقي خليج عدن، ومن الشرق المُحيط الهندي، بينما تحدّه كينيا من الجنوب، ومـن الغـرب والشـمال الغربي السودان، وتقدر مساحته بنحو 1,800 مليون كم2. ويتسع مفهوم القرن الإفريقي، تبعًا لرؤية بعض الباحثين، ليضم أغلب دول شرق إفريقيا وإقليم البحيرات، لا سيَّما كينيا والسودان، حتى بات يُعرف بالقرن الإفريقي الكبير أو العظيم.
ويستمد القرن الإفريقي أهميته الجغرافيَّة من عدة عوامل؛ إذ يُشكّل موقعًا إستراتيجيًّا بالغ الأهمية باعتباره حلقة الوصل بين قارات العالم القديم؛ آسيا وإفريقيا وأوروبا، كما أن إشرافه على البحر الأحمر قد سهَّل عمليه اتصاله بمناطق العالم كافة، فضلاً عن ذلك، يُعدّ القرن الإفريقي المدخل الوحيد إلى القارة الإفريقيَّة من ناحية الشرق، والأهم منذ ذلك، أنه يُمثِّل عمقًا إستراتيجيًّا للقوى الكبرى ومصدرًا للتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
كما يكتسب القرن الإفريقي أهميةً جيوسياسيَّة خاصة؛ كونه يُعدّ مركزًا للإشراف على طريق التجارة الدوليَّة الذي يمتد من بحر العرب والمُحيط الهندي جنوبًا وصولاً إلى قناة السويس والبحر المتوسط شمالاً عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وما يُمثِّله هذا الطريق البحري من أهميةٍ بالغة بالنسبة للاقتصاد العالمي؛ كونه يُعدّ الشريان الرئيسي الذي يُغذِّي الأسواق العالميَّة باحتياجاتها من النفط والطاقة المتدفقة من الخليج العربي. ومن هذا المُنطلق شكَّلت عمليات القرصنة البحريَّة في خليج عدن وتهديدات الحوثيين في اليمن بتعطيل حركة الملاحة البحريَّة أحد شواغل السياسة الدوليَّة في الآونة الأخيرة، وحافزًا لتحرُّك القوى الفاعلة لمواجهة هذه المخاطر، مما يُدلِّل على أهمية منطقة القرن الإفريقي وارتباطها الوثيق بديناميات الأحداث وقضايا الصراع الكبرى، سواءٌ في شرق إفريقيا أو الشرق الأوسط.
ولا تقتصر أهمية القرن الإفريقي على موقعه الجغرافي وأهميته الجيوسياسيَّة، بل تتعدى ذلك إلى الموارد الطبيعيَّة والمعدنيَّة التي تكتنزها دول المنطقة في بواطنها، ولا سيَّما البترول والغاز الذي تم اكتشافه مؤخرًا، فضلاً عما تختزنه المنطقة من ثروات معدنيَّة كالذهب؛ إذ يحتوي القرن الإفريقي على احتياطات كبيرة من المعادن المُستخدَمة في الصناعات الكبرى مثل اليورانيوم والبوكسيت.
من ناحيةٍ أخرى، يُشكّل القرن الإفريقي منطقة صراع تاريخيَّة بين المسيحية والإسلام تمثلت في حروب طويلة للسيطرة على المنطقة، كما كانت المنطقة وسواحلها الطويلة وثرواتها عاملاً لجذب الغزاة وبؤرةً للتنافس في مرحلة الحرب الباردة؛ حيث اشتد فيها الصراع بين القطبين العُظميين؛ الاتحاد السوفييتي والولايات المُتحدة الأمريكيَّة، كما كانت على الدوام عاملًا مؤثرًا في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948م.
يتبين لنا في ضوء العرض السابق، أنه بالنظر إلى الأهمية الإستراتيجيَّة التي يستأثر بها القرن الإفريقي، فقد ظلت المنطقة على الدوام، وما تزال، محطّ أنظار القوى الكبرى ومسرحًا للصراع فيما بينها، من أجل تعظيم نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة، وضمان الحفاظ على مصالحها الحيويَّة فيها.
أهداف ومصالح السياسة الصينيَّة في القرن الإفريقي:
تتنوع أهداف الصين ومصالحها في منطقة القرن الإفريقي لتشمل بجانب الأهداف السياسيَّة والأمنيَّة أهدافًا أخرى اقتصاديَّة، وعسكريَّة.
أولاً: الأهداف السياسيَّة والأمنيَّة
يمكن القول: إنَّ تنامي النفوذ الصيني في إفريقيا، وبخاصة في منطقة القرن الإفريقي، يعكس رغبة الحكومة الصينيَّة وجهودها الرامية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف السياسيَّة التي تُشكّل أولويةً في صلب السياسة الخارجيَّة الصينيَّة تجاه المنطقة، يبرز في مقدمتها حرص الصين على تعزيز علاقاتها الدبلوماسيَّة والاقتصاديَّة مع حكومات الدول الإفريقيَّة، ومحاولة استقطاب هذه الحكومات لدعم المبادئ التي تحكم سياسة الصين الخارجيَّة والتي من بينها احترام قواعد القانون الدوليّ، وتفعيل التسوية السلميَّة للمُنازعات، ومعارضة التدخل في الشأن الداخلي للدول، بالإضافة إلى نبذ الأحادية الأمريكيَّة، والعمل على إيجاد نظام دوليّ جديد متعدد الأقطاب.
والأهم من ذلك، تسعى الحكومة الصينيَّة إلى اجتذاب حكومات دول القرن الإفريقي لدعم مواقفها في الأمم المُتحدة، ولا سيَّما في مجلس الأمن والجمعية العامة. كما يندرج ضمن فئة الأهداف والمصالح السياسيَّة أيضًا، رغبة الحكومة الصينيَّة في دفع الحكومات الإفريقيَّة إلى سحب اعترافها بتايوان (الصين الوطنيَّة)، وقطع علاقاتها الدبلوماسيَّة معها، ومِن ثَمَّ الإقرار بوجود دولة صينيَّة واحدة؛ إذ ترفض الصين الشعبيَّة الاعتراف باستقلال تايوان عنها وتعتبرها جزءًا من إقليمها.
يُضاف إلى مصالح الصين السياسيَّة في منطقة القرن الإفريقي أيضًا، رغبة بكين في الحدّ من النفوذ الغربي، لا سيَّما النفوذ الأمريكي، ومواجهته؛ إذ تسعى الصين إلى تغيير علاقات القوة الدوليَّة وتقويض الهيمنة الأمريكيَّة العالميَّة، الأمر الذي يجعل القرن الإفريقي من أهم مناطق القارة الإفريقيَّة فيما يتعلق بالمناورات العسكريَّة الصينيَّة تجاه القضايا الإقليميَّة والقطبيَّة العالميَّة.
ثانيًا: الأهداف الاقتصاديَّة
لا شك أنَّ الهدف الاقتصادي يظل أهم دوافع الاهتمام الصيني بمنطقة القرن الإفريقي ومحور التفاعل معها. فمع نهاية الحرب الباردة، بدأت الصين الاهتمام بالقارة الإفريقيَّة، وبخاصة منطقة القرن الإفريقي، نظرًا لموقعها الحيوي ومواردها المتنوعة؛ حيث تأثرت هذه العودة بمتغيرات البيئة الدوليَّة من ناحية، وبالأولويات المُلِحَّة في السياسة الصينيَّة من ناحيةٍ أخرى؛ وقد انعكست متغيرات البيئة الدوليَّة أثناء الحرب الباردة وبعدها على العودة الصينيَّة، وتجلى ذلك في ارتكازها بشكلٍ تامّ على أسسٍ اقتصاديَّة تجاريَّة لا أُسس أيديولوجيَّة كما في السابق.
ولقد جاءت العودة الاقتصاديَّة الصينيَّة تجاه دول القرن الإفريقي متمثلةً في فتح أسواق جديدة، بالإضافة إلى تدشين العديد من المؤسسات الاقتصاديَّة ذات الطابع التعاوني، كصندوق التنمية الصينيَّة الإفريقيَّة الذي تأسس عام 2006م، ومنتدى التعاون بين بكين والقارة الإفريقيَّة الذي جاء مُكمِّلاً لدور صندوق التنمية، وتسعى هذه المؤسسات إلى ترسيخ العلاقات وتعزيز التفاهم والمنفعة المتبادلة وتدعيم أواصر الصداقة بين الصين ودول القارة الإفريقيَّة ودول القرن الإفريقي بوجه خاص.
كما تبرز الأهمية الاقتصاديَّة للقرن الإفريقي بالنسبة للصين من كونها تُشكِّل جزءًا مهمًّا من المشروع الصيني المعروف بمبادرة الحزام والطريق. فخلال زيارته إلى إندونيسيا وعددٍ من دول آسيا الوسطى في الفترة من سبتمبر إلى أكتوبر 2013م، طرح الرئيس الصيني «تشي جين بينغ Xi Jinping» إستراتيجية «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير» المعروف اختصارًا بالحزام، و«طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين» المعروف اختصارًا بالطريق، وتتألف المبادرة من مكونين؛ أحدهما بري والآخر بحري.
وتستهدف «مُبادرة الحزام والطريق» الصينيَّة ربط الصين ومنتجاتها بالعالم الخارجي من خلال تدشين شبكة واسعة من السكك الحديديَّة والممرات البحريَّة وخطوط الاتصالات السلكيَّة واللاسلكيَّة، من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي ودعم العلاقات التجاريَّة والثقافيَّة بين بكين وعددٍ كبيرٍ من أقطار قارات العالم القديم؛ في آسيا وإفريقيا وأوروبا. ويُلاحظ أنَّ شرق إفريقيا، وبالتحديد منطقة القرن الإفريقي، تُمثل جزءًا رئيسًا من المكون البحري لطريق الحرير، الذي يبدأ من الصين ويمر عبر مضيق ملقا ثم المُحيط الهندي، وصولاً إلى السواحل الشرقيَّة لإفريقيا والقرن الإفريقي عبر الأحمر وقناة السويس، فالبحر المتوسط ومنه إلى أوروبا.
وفي سياق إستراتيجية النفط الصينيَّة التي تقوم على تنويع مصادر النفط والطاقة، فإنَّ منطقة القرن الإفريقي تُمثِّل مصدرًا مهمًّا لتلبية احتياجات الصين من النفط؛ حيث تم الكشف عن مناطق نفطية جديدة لم تكن معروفةً قبل ذلك في الصومال وكينيا وأوغندا وتنزانيا؛ حيث تقوم الشركات الصينيَّة بالتنقيب عن النفط والغاز في هذه الأقاليم بما يساعد الصين في تعزيز نموها الاقتصادي والصناعي.
ثالثًا: الأهداف العسكريَّة
لا يقتصر تنامي الحضور الصيني في منطقة القرن الإفريقي على تحقيق الأهداف والمصالح السياسيَّة والاقتصاديَّة فحسب، بل يتجاوز ذلك وصولاً إلى الأهداف العسكريَّة. ففي ظل التكالب والتدافع الدوليّ على القرن الإفريقي وموارده الطبيعيَّة والمعدنيَّة، باشرت القوى العُظمى، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأمريكيَّة والأقطاب الأوروبيَّة الكبرى، في تعزيز وجودها العسكري في شرق إفريقيا، من خلال تدشين قواعد عسكريَّة وانتزاع تسهيلات لوجستيَّة وأمنيَّة من حكومات هذه الدول، ولم يكن بوسع الصين، بوصفها قوة صاعدة، أن تنأى بنفسها عن هذا المضمار، في إطار سعيها الدؤوب لتعظيم مكاسبها السياسيَّة والاقتصاديَّة وموازنة النفوذ الغربي في المنطقة.
بدأ التواجد العسكري الصيني في القرن الإفريقي عام 2008، بالقرب من سواحل الصومال، وذلك في أعقاب إصدار مجلس الأمن مجموعةً من القرارات الدوليَّة بشأن القرصنة في خليج عدن، وهي القرارات التي صدرت بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المُتحدة التي تُجيز استعمال القوة في القضايا التي من شأن استمرارها تهديد السلم والأمن الدوليين أو الإخلال بهما. وتنفيذًا لرؤيتها الإستراتيجيَّة بضرورة إيجاد موطئ قدم دائم في القرن الإفريقي، شرعت الحكومة الصينيَّة في توقيع اتفاق مع حكومة جيبوتي، يقضي بإنشاء قاعدة عسكريَّة صينيَّة على أراضيها، وهي أول قاعدة بحريَّة صينيَّة في القرن الإفريقي، والهدف من هذه القاعدة، وفقًا لما أعلنته وكالة أنباء الصين، ضمان أداء الصين في بعثات حفظ السلام والمُساعدات الإنسانيَّة في إفريقيا، والمُساعدة في أداء المهام الخارجيَّة بما في ذلك التعاون والتدريب العسكري، فضلاً عن حماية الأمن الصيني في الخارج.
افتتحت الصين قاعدتها العسكريَّة في جيبوتي، والتي حملت اسم «قاعدة دعم جيش التحرير الشعبي الصيني»، في أغسطس 2017م، وفي العام التالي أعلنت الحكومة الصينيَّة أنها بصدد بناء مرافق إضافية، وتمتد هذه القاعدة البحريَّة، التي بلغت تكلفة إنشائها نحو 590 مليون دولار، على مساحة قدرها 364 ألف متر مربع، وتصل قدرة استيعابها إلى عشرة آلاف جندي، وتتقاضي جيبوتي 20 مليون دولار سنويًّا طوال مدة الاتفاقية البالغة 25 عامًا.
وتكشف الخطوة الصينيَّة بإنشاء قاعدة دعم جيش التحرير الشعبي الصيني في جيبوتي عن تحوّلٍ جذريٍّ في العقيدة العسكريَّة للصين، والتي كانت حتى نهاية الحرب الباردة وبعدها تُحذّر من خطورة انتشار القواعد العسكريَّة على السِّلْم والأمن الدوليين، وترفض إرسال جنود صينيين إلى أراضٍ تابعة للدول الأجنبيَّة. ويعكس هذا التحوُّل في العقيدة العسكريَّة للصين استجابتها للتغيرات الدوليَّة التي تفرض عليها اتباع سياسة برغماتية، تُلبِّي طموحاتها السياسيَّة والاقتصادية باعتبارها قوةً عالميَّةً صاعدة.
جدير بالمُلاحظة أنَّ القاعدة العسكريَّة الصينيَّة في جيبوتي ليست الأولى أو الوحيدة من نوعها؛ إذ تستضيف جيبوتي، بالرغم من صغر رقعتها الجغرافيَّة، الكثير من القواعد والمرافق العسكريَّة، فإلى جانب الوجود العسكري للقوى الغربيَّة كالولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، تحتضن جيبوتي أيضًا قاعدةً عسكريَّة يابانيَّة، وقاعدة أخرى تابعة لدولة الإمارات العربيَّة. ومن المتوقع أن تستقطب جيبوتي دولاً أخرى في المُستقبل القريب، مثل روسيا والهند، للالتحاق بشبكة القواعد العسكريَّة على أراضيها؛ إذ تمثل هذه القواعد مصدرًا رئيسًا للدخل القومي بالنسبة لحكومتها.
من ناحيةٍ أخرى، تُحاول الصين استغلال الصراعات المُسلحة التي تموج بها منطقة القرن الإفريقي لحماية مصالحها؛ إذ تشكل إفريقيا، وبخاصة منطقة القرن الإفريقي، سوقًا لبيع وتصريف الأسلحة الصينيَّة. كما تعمل الصين بنشاط على الترويج لنفسها كمورد رئيسي للأسلحة إلى القارة الإفريقيَّة، ففي يونيو 2018م، استضافت بكين أول منتدى صيني/ إفريقي للدفاع والأمن ضم ممثلين عن 50 دولة إفريقيَّة والاتحاد الإفريقي، بهدف تعزيز التعاون الصيني الإفريقي في مجالات مكافحة الإرهاب، ومكافحة القرصنة، ومبادرات الأمن الإقليمي.
وتشير بعض التقارير المُتعلقة بمبيعات السلاح للقارة الإفريقيَّة إلى قيام حكومة جيبوتي بشراء الأسلحة الصينيَّة من أجل إمداد الجماعات المُسلحة المتحالفة معها في شمال الصومال، وتستهدف الأسلحة الصينيَّة التي يتم توريدها للصراعات في القرن الإفريقي، بشكل أساسي، السودان وجنوب السودان؛ حيث تتمتع الصين بمصالح تجاريَّة ودبلوماسيَّة كبيرة، كما يُعدّ الجيش الإثيوبي من أهمّ المشترين لنظام الصواريخ الصيني سطح/ جو من طراز HQ-64 وصواريخ PL-11/FC-60 التي تتجاوز المدى المرئي.
أدوات القوة الناعمة في السياسة الخارجيَّة الصينية تجاه القرن الإفريقي:
تسعى الصين إلى توظيف قوتها الناعمة في سياستها الخارجيَّة تجاه دول القرن الإفريقي لتحقيق أهدافها السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة في المنطقة، وذلك من خلال عدة أدوات، تتراوح ما بين أدوات اقتصاديَّة كالمشاريع والمُساعدات التنموية، وأدوات دبلوماسيَّة كالتأكيد على التقارب والتفاهم التاريخي في العلاقات الصينيَّة الإفريقيَّة وتعيين مبعوث خاص للقرن الإفريقي، إضافةً إلى الأدوات الثقافيَّة، والتي من بينها نشر الثقافة واللغة الصينيَّة عن طريق معاهد كونفوشيوس وغيرها من المراكز الثقافيَّة الصينيَّة.
أولاً: المشروعات والمساعدات التنمويَّة
تُعدّ المشروعات والمُساعدات التنمويَّة والماليَّة من أهم أدوات القوة الناعمة التي تعوِّل عليها الصين لتعزيز حضورها في إفريقيا، ومنطقة القرن الإفريقي بوجه خاص؛ إذ تعكس هذه المُساعدات، التي تقوم على مبدأ المنفعة المُتبادلة، حرص بكين على تحقيق التنمية الاقتصاديَّة، التي تُمثل بدورها أولويةً بالنسبة لدول القرن الإفريقي لتطوير بنيتها الاقتصاديَّة واستقطاب الاستثمارات الأجنبيَّة، بما يساعدها على تحقيق رفاهية شعوبها.
فخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أنشأت الصين سبعة مشروعات تنمويَّة في الصومال، نظير توقيع اتفاق مع الحكومة الصوماليَّة للتنقيب عن النفط في أحد أقاليم البلاد، ومنحت إريتريا قرضًا بقيمة 23 مليون دولار بغرض تطوير بنية الاتصالات التحتيَّة، وفي عام 2007م، وقَّعت بكين مع حكومة إريتريا أيضًا اتفاقًا يقضي بإزالة التعريفات الجمركية للمُنتجات الإريترية المُصدّرة إلى الصين، كما تضمّن الاتفاق كذلك إلغاء جزء من الدين الإريتري.
وفي إثيوبيا، نفّذت شركة «سينو هيدرو» الصينيَّة مشروعًا بقيمة 365 مليون دولار، بغرض توليد الطاقة الكهربائيَّة من أحد السدود الواقعة على نهر تيكزي، فيما بلغ إجمالي استمارات الشركة الصينيَّة في إثيوبيا نحو 900 مليون دولار، كما قامت الصين أيضًا بإنشاء خط سكك حديد يربط جيبوتي بإثيوبيا.
فيما تتوزع الاستثمارات الصينيَّة في جيبوتي على ثلاثة مشاريع تتعلق بالبنى التحتيَّة، تتمثل في إنشاء ميناء جديد متعدد الاستخدامات، وسكة حديد بمقاييس دوليَّة، فضلاً عن خط أنبوب مياه يمتد إلى إثيوبيا، ويتم تمويل كل مشروع من هذه المشروعات الثلاثة بقرض من مصرف الصين للاستيراد والتصدير تبلغ قيمته نحو مليار ونصف المليار دولار، ويرافق هذه المشاريع مجموعة من الأعمال الداعمة ومنطقة تجارة حرة، وعمليات لضخ رأس المال الخاص. كما تتبع الصين سياسة منح القروض لحكومات دول القرن الإفريقي، وأهم ما يُميِّز هذه القروض أنها بدون فوائد أو بفائدةٍ مخفضة، من أجل مساعدة تلك الحكومات على النهوض باقتصاداتها المتداعية.
وفيما تُحذّر الولايات المتحدة من هذه القروض، وتتَّهم الصين بتعمدها تقديم قروض بفوائد مُخفضة من أجل تعظيم نفوذها السياسي والهيمنة على قرارات تلك الدول؛ فإنَّ الحكومة الصينيَّة تنفي من جانبها هذه الادعاءات. وكانت كينيا من بين الدول التي تحصلت على قرضٍ صيني بفترة سماح تمتد لخمس سنوات من أجل إنشاء خطوط سكك حديديَّة، وأمام عجز كينيا عن سداد هذه القروض، تمكَّنت الصين من السيطرة على ميناء «مومباستا» الذي يُعد الميناء الرئيسي لضخ الأرباح إلى الحكومة الكينيَّة.
وتشير الإحصاءات المُتعلقة بالتبادلات التجاريَّة بين الصين ودول القرن الإفريقي إلى أنَّ الصين أصبحت الشريك الأول لهذه الدول؛ إذ تستحوذ المشروعات التنمويَّة والاستثماريَّة للصين في منطقة القرن الإفريقي على نسبةٍ قدرها 25 في المائة من إجمالي قيمة الاستثمارات الصينيَّة في القارة الإفريقيَّة.
ثانيًا: التفاهم والتقارب التاريخي في العلاقات الصينيَّة الإفريقيَّة
تسعى الصين إلى اجتذاب دول القارة الإفريقيَّة، ودول القرن الإفريقي على وجه الخصوص، من خلال الترويج لصورتها الدوليَّة باعتبارها إحدى الدول النامية التي تمكَّنت بفضل سواعد أبنائها وجهودها الذاتيَّة من تجاوز مرحلة الضعف والانقسام، ومن ثمَّ بناء قوتها الاقتصاديَّة والسياسيَّة، وأنها بذلك تُمثّل نموذجًا يُحتَذى للاقتداء به في التنمية الاقتصاديَّة والصناعيَّة. كما تستهدف الصين إبراز العوامل التاريخيَّة التي تُمثّل عاملاً مشتركًا في إطار العلاقات الصينيَّة الإفريقيَّة؛ حيث تعرَّضت الصين، كما الأقطار الإفريقيَّة، لعقودٍ طويلةٍ من الإذلال من جانب القوى الاستعماريَّة، سواءٌ القوى الغربيَّة، أو حتى الآسيويَّة كاليابان.
من ناحيةٍ أخرى، تستثمر الصين في مواقفها التاريخيَّة الداعمة لحركات التحرُّر الوطني في إفريقيا ضد القوى الاستعماريَّة، وبالتحديد ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي، في أعقاب نهاية الحرب العالميَّة الثانية؛ حيث نادت الصين بحق الدول في تقرير مصيرها، وكانت من أوائل الدول السباقة إلى الاعتراف باستقلال الاقطار الإفريقيَّة والدخول في علاقات دبلوماسيَّة معها.
وفي السياق ذاته، تزعم الصين أنها وبالرغم من كونها قوةً عالميةً صاعدة، إلا أنها دولة مناهضة للاستعمار والإمبرياليَّة العالميَّة، فلم يسبق لجيشها أن غزا بلدًا أو احتلَّ أرضًا، وأنَّ مواقفها في مجلس الأمن الدوليّ التابع للأمم المُتحدة، باعتبارها أحد الأعضاء الدائمين فيه، تعكس على الدوام حرصها على استتباب الأمن والاستقرار في ربوع القارة الإفريقيَّة ومنطقة القرن الإفريقي.
والواقع أنَّ الموروث التاريخي والسياسي للصين تجاه القارة الإفريقيَّة، والذي تطغى عليه عوامل التفاهم والتناغم بين الجانبين، يُعزّز من فرص قبول الصين كحليفٍ سياسي وشريكٍ اقتصادي موثوق من قبل الحكومات الإفريقيَّة، وذلك على النقيض من القوى الغربيَّة التي لديها سِجِل استعماريّ في المنطقة، ويَلْقى وجودها نفورًا شعبيًّا. وما يُعزّز من جاذبية الصين كذلك، امتناعها عن ربط مُساعداتها الاقتصاديَّة والتنمويَّة بالمشروطية السياسيَّة، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن اتباعها سياسة النأي بالنفس عن التدخل في الشأن الداخلي للدول، والامتناع عن بثّ أي أفكار سياسيَّة أو أيديولوجيَّة معينة، كما تفعل الولايات المُتحدة أو فرنسا، مما شكَّل عامل جذب للدول الإفريقيَّة تجاه الحضور الصيني.
ثالثًا: تعيين مبعوث صيني خاص إلى القرن الإفريقي
بلغ اهتمام الصين بمنطقة القرن الإفريقي -التي تشهد صراعات إقليميَّة واضطرابات أمنيَّة واسعة- إلى حدّ إعلان وزير خارجيتها «وانغ يي Wang Yi» تعيين مبعوث خاص في القرن الإفريقي؛ لتعزيز الاستقرار الدائم والسلام والازدهار في المنطقة، وذلك خلال جولته في إريتريا وكينيا وجزر القمر خلال الفترة من 4 إلى 7 يناير 2024م، والتي تأتي في إطار التقليد الدبلوماسي الصيني المُمتد لأكثر من 32 عامًا.
ويُعزَى السبب الرئيس وراء تعيين مبعوث صيني خاص للقرن الإفريقي إلى رغبة الصين في حماية استثماراتها في المنطقة، خاصةً في ظل تصاعد أعمال العنف وتهديدها المحتمل للاستثمارات الصينيَّة؛ إذ تعد الصين أكبر مُقْرِض للكثير من الدول في منطقة جنوب الصحراء الكبرى؛ حيث تُمثل القروض الصينيَّة حوالي خمس إجمالي هذه القروض.
دافع آخر يمكن أن يُعزَى إليه تعيين الصين مبعوث خاص لها في القرن الإفريقي، وهو موازنة الوجود الدبلوماسي للصين مع القوى الأخرى في المنطقة، وعلى رأسها الولايات المُتحدة التي سبقت الصين في هذه الخطوة؛ إذ تُحاول الصين أن تُقدّم نفسها لدول القرن الإفريقي كنموذجٍ مختلفٍ في إدارة الأزمات عن الولايات المُتحدة والقوى الغربيَّة الأخرى التي تعثرت جهودها الدبلوماسيَّة لإنهاء الصراعات القائمة في المنطقة، كما أنَّ تعيين مبعوث جديد سيُوفّر لبكين مستوًى إضافيًّا من التنسيق والتواصل مع مُختلف الفاعلين في القرن الإفريقي. فيما يُفسر آخرون هذه الخطوة الصينيَّة على أنها تُمثّل ابتعادًا عن موقف الصين التقليدي، المتمثل في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، ومؤشرًا على اتجاهها للقيام بدورٍ نشطٍ وبناءٍ في منطقة القرن الإفريقي، سياسيًّا واقتصاديًّا، وربما عسكريًّا في مرحلة تالية.
رابعًا: نشر وتوطيد الثقافة الصينيَّة
تسعى الصين إلى نشر اللغة والثقافة الصينيَّة في ربوع القارة الإفريقيَّة في إطار إستراتيجيتها الرامية إلى تعميق التبادل الثقافي بين الصين والعالم الخارجي؛ من خلال إنشاء العديد من المعاهد والمؤسسات التعليميَّة في عددٍ من الدول الإفريقيَّة، فضلاً عن توقيع الصين لـ156 اتفاقية للتعاون الثقافي مع دول القارة وإرسالها لمعلمين متخصصين إلى 35 دولةً إفريقيَّةً لمساعدتها في تطوير التعليم المدرسي.
وتُعدّ «معاهد كونفوشيوس» إحدى أهم القنوات الرئيسيَّة التي ترعاها الدولة الصينية للترويج للغة والثقافة الصينيَّة في الخارج، ولا شك أنَّ إقبال دول القارة الإفريقيَّة على تعلُّم اللغة الصينيَّة يعكس قوة الصين الاقتصاديَّة ومكانتها الدوليَّة كقوة فاعلة ومؤثرة في النظام الدوليّ.
فقد افتتحت الصين معهد كونفوشيوس في العاصمة جيبوتي، وبالتحديد في المدرسة الثانوية الصناعيَّة والتجاريَّة، وقد تم إنشاؤه بالاشتراك بين جامعة سيتشوان للمعلمين الصينيَّة وإدارة التعليم الوطني والتدريب المهني في جيبوتي. أما في إثيوبيا، فيعود تاريخ إنشاء المراكز الثقافيَّة الصينيَّة إلى عام 2010م، عندما تم افتتاح أول مركز صيني في كلية الفنون التطبيقيَّة الإثيوبيَّة في العاصمة أديس أبابا؛ حيث تم تسجيل أكثر من 250 طالبًا في فصول اللغة الماندرينية الإلزاميَّة، تلا ذلك افتتاح مراكز جامعيَّة في جامعات هواسا، وميكيلي، وآرسي، وجيما الإثيوبيَّة، وتمنح هذه المراكز برامج أكاديميَّة، تتضمَّن درجة البكالوريوس في اللغة الصينيَّة، فضلاً عن برامج أخرى في مجال الدراسات العُليا.
وبحلول يونيو، 2013م، افتتحت الصين معهد كونفوشيوس لتعليم اللغة والثقافة الصينيَّة في العاصمة الإريترية أسمرة، بموجب اتفاقية بين حكومة الصين وإريتريا، وجاءت هذه الخطوة في إطار تعزيز العلاقات الاقتصاديَّة والثقافيَّة بين البلدين، وتمكين الطلاب الإريتريين من تعلم اللغة الصينيَّة دون صعوبة، بما يسمح لهم مستقبلاً بالتوجه إلى الصين لمتابعة دراساتهم العُليا.
خاتمة:
في ظل حالة التدافع الدوليّ على منطقة القرن الإفريقي، واشتداد وتيرة التنافس حولها من جانب الأقطاب الدوليّة الكُبرى، لما تتمتع به من أهميةٍ إستراتيجيةٍ واقتصاديةٍ بالغة، تسعى الصين بدورها إلى تأكيد حضورها في المنطقة وترسيخ مكانتها كقوةٍ فاعلةٍ ومؤثرة، في إطار سعيها الدؤوب لتأمين مصالحها السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة، وموازنة النفوذ الغربي في شرق إفريقيا. وتُعوِّل الصين في تحقيق تلك الأهداف على توظيف قوتها الناعمة، التي اكتسبت زخمًا هائلاً في العقود الأخيرة، باعتبارها أداةً فاعلة تقوم على الجذب والاقناع بدلاً من القوة والإكراه في تنفيذ السياسة الخارجيَّة. وتتنوع أدوات القوة الناعمة للصين تجاه دول المنطقة، ما بين أدوات اقتصاديَّة، ودبلوماسيَّة، وثقافيَّة، مما يعكس اتساع حجم مصالحها في القرن الإفريقي.