غزة

تفاعل الشارع العربي مع الحرب على غزة

ضعف الشارع وقواه المحركة حتى في القضايا المحلية أيضًا، كتلك المرتبطة بالحقوق السياسية والنقابية، فلا تكاد تجد حراكًا جادًا ومؤثرًا فيها، لتبقى الدولة وأجهزتها الفاعل الوحيد أو الفاعل الأكثر تأثيرًا في الحياة العامة.

بقدر ما تثير ردود الفعل العالمية الواسعة المطالبة بوقف الحرب على غزة وإدانة البربرية الإسرائيلية تفاؤلًا بشأن المستقبل، فإنها تفتح في الوقت نفسه بابًا لمقارنة مؤلمة مع مستوى تفاعل الشارع العربي مع الحرب.

جاء رد فعل الشارع العربي محدودًا ومترددًا ودون مستوى المعركة، رغم كثرة محاولات الاستنهاض من أطراف فلسطينية وعربية عديدة، على رأسها الناطق باسم المقاومة الفلسطينية أبو عبيدة، إلا أن هذه الدعوات بدت صرخة في “صحراء” لا تكاد تلمس لها أثرًا، مما يدعو إلى التفكير في سلوك الشعوب العربية والعوامل المؤثّرة فيه.

يلجأ كثيرون إلى التفسير الأسهل لضعف الحراك العربي عبر ربطه بالقبضة الأمنية في غالبية الدول العربية، والكلفة التي قد يدفعها المشاركون في المظاهرات أو من يعارضون سياسات دولهم. لكن هذا التفسير وحده يبدو قاصرًا

تعاطف يرافقه عجز

تؤكّد بعض استطلاعات الرأي، كالذي صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في يناير/كانون الثاني الماضي، ما هو منطقي ومعلوم بالضرورة لدى العارفين بالشأن العربي؛ وهو أن الغالبية العظمى من الشعوب العربية تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقوقه ونضاله المشروع، وترفض الاعتراف بكيان الاحتلال والتطبيع معه، وتعتبر القضية الفلسطينية قضيتها المركزية، وأن الاحتلال ومن خلفه الولايات المتحدة هما المهدد الرئيسي للأمن والاستقرار في المنطقة. لكن ذلك الإدراك والتأييد لم يترجما إلى فعل شعبي فاعل وقوي ومؤثر خلال الحرب، إذ بقي يتّسم بالضعف والفتور والتردد رغم ازدياد حجم المجازر.

في هذه المقالة نحاول فتح النقاش حول الأسباب، الذاتية والموضوعية، الكامنة وراء هذا السلوك، مع كامل الإدراك أن قراءة وتفسير السلوك السياسي والاجتماعي للحركات والشعوب، أمرٌ معقد يحتاج إلى تأنٍ وتعمق في البحث، لكنها محاولة للفهم قد تشكل مدخلًا لدراسة هذا السلوك، انطلاقًا من أهميته القصوى لكل المهتمين بالشأن العربي والفلسطيني.

من أبرز ما ميّز الحراك الشعبي العربي:

محدودية التفاعل وضآلة عدد المنخرطين فيه، فلم نشهد مليونيات أو مسيرات ضخمة تجوب الشوارع العربية منذ بداية الحرب وفي أشد مراحلها قسوة.

الدول التي جرت فيها مظاهرات لا مشتركَ سياسيًا بينها، فلا تحمل على محور بعينه مما يطلق عليه سياسة المحاور المتقابلة، فهي خليط من هذا وذاك، وعليه فالتصنيف السياسي فقط قد لا يكون مجديًا.
النفس القصير، وعدم القدرة على مجاراة الحرب ولو بمسيرات أسبوعية أو شهرية.

انعدام التأثير على مواقف حكوماتها من الحرب، فالأنظمة مستمرة في مواقفها استنادًا لحساباتها الخاصة، دون اعتبار لحراك الشارع أو تطوره.

الانسجام مع سقف موقف الدولة أو التحرك دون سقفها أحيانًا، الأمر الذي لم يجعل من حراك الشارع ذا تأثير أو جدوى.

المعضلة ليست أمنية فحسب

يلجأ كثيرون إلى التفسير الأسهل لضعف الحراك العربي عبر ربطه بالقبضة الأمنية في غالبية الدول العربية، والكلفة التي قد يدفعها المشاركون في المظاهرات أو من يعارضون سياسات دولهم. لكن هذا التفسير وحده يبدو قاصرًا، خاصة أن العديد من الدول العربية وفرت حيزًا معقولًا للحراكات الشعبية، ولم نلاحظ قمعًا أمنيًا أو مواجهة عنيفة مع المتظاهرين في العواصم العربيَّة.

وعليه، فإن محاولة فهم هذا السلوك الشعبي وقراءة ما وراءه أمر هام وصعب في آن، وما أعتقد أنه أثر في سلوك الشعوب العربية هو العوامل الآتية:

أزمة مفهوم وقيمة الحرية عند الشعوب العربية وقواها الفاعلة. ظهر ذلك في كثير من المحطات خلال العقود المنصرمة، فلم يبدُ أنهم اعتنقوا الحرية كقيمة عليا تستحق نضالًا استثنائيًا، وكانوا مستعدين للتعايش مع الحدود الدنيا من الحرية أو بدونها، بل قد تجد نخبًا فكرية تنظّر للاستبداد وتبرّره وتتفاعل مع مساحة الحرية الضيقة الممنوحة لها، وفي ظرف كهذا تتراجع القدرة على التعبير عن الذات وتحدي العوائق كما يفعل المتظاهرون في دول العالم، وبالذات الغربية منها.

ضعف الشارع وقواه المحركة حتى في القضايا المحلية أيضًا، كتلك المرتبطة بالحقوق السياسية والنقابية، فلا تكاد تجد حراكًا جادًا ومؤثرًا فيها، لتبقى الدولة وأجهزتها الفاعل الوحيد أو الفاعل الأكثر تأثيرًا في الحياة العامة، ويجد المواطن نفسه مكشوف الظهر أمام الدولة وأجهزتها، لا يوجد من يشكّل له سندًا.

محدودية قدرة البنى الحزبية والاجتماعية والنقابية، وقلة تجربتها في التفاعل مع التطورات السياسية والقضايا المعقدة والكونية، كالقضية الفلسطينية. فهي لم تتمكن من بناء حيز للعمل العام في أقطارها، يمكنها من التفاعل مع القضايا المبدئية أو ذات الاهتمام العالمي المشترك دون أن يتحول ذلك إلى أزمة داخلية أو مساحة اشتباك مع النظم السياسية.

تباين الأولويات، حيث نشأ بعد الاستقلال تباين واضح بين الشعوب العربية في الأولويات السياسية والاجتماعية، وتفاقمت هذه الظاهرة بعد الربيع والعربي، إذ برز في كثير من الدول جملة من القضايا الوطنية الملحة ذات الأهمية القصوى لشعوبها، الأمر الذي أحدث إرباكًا كبيرًا لدى كثير من القوى السياسية والاجتماعية في تحديد الأولويات، وطال القضية الفلسطينية وأولويتها.

الاستنزاف الوطني الناجم عن الربيع العربي والثورات المضادة. فما زال كثير من الشعوب العربية، يعيش بشكل مباشر أو غير مباشر، تداعيات الربيع العربي وما لحقه من ثورات مضادة، على مختلف المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ويستنزف ذلك حيويتها وفاعليتها، المحدودة ابتداءً.

الموقف الرسمي من الاحتجاجات، فحتى الدول التي تبدي تضامنًا مع القضية الفلسطينية، لا ترحب بالتحركات الشعبية ويساورها القلق تجاهها، فتتعامل معها بشكل سلبي.

ضعف وانحسار الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية، وهي الطبقة التي تتصدر عادة الحراكات الشعبية والتحولات السياسية والاجتماعية. تلاشت هذه الطبقة في العديد من الدول العربية وانقسمت مجتمعاتها إلى طبقتين أساسيتين: أغلبية كادحة فقيرة، وأقلية ثرية، وهما طبقتان غير فاعلتين في الحراكات الشعبية لاعتبارات متباينة؛ ما بين خوفٍ من المستقبل وضغط اقتصادي كبير يجعل أولوية الفقراء الكادحين توفير القوت اليومي، وخوفٍ على الاستقرار الاقتصادي والمصالح التجارية والاقتصادية لدى الأغنياء، وهكذا يتولد بين الطبقتين مشترك يبدو غير منطقيّ هو الحرص على الاستقرار والانسجام مع مواقف الجهات الرسمية.

هذه العوامل وغيرها تحتاج تعمقًا في الدراسة لتفسير سلوك لم يخذل فحسب من يخوضون المعركة في غزة، بل يشكل كذلك خطرًا على المستقبل ومآلاته. وهو أمر يدعو كل المكوّنات السياسية والاجتماعية والنقابية والنخب الفكرية والثقافية لإعادة النظر في الأفكار والبرامج والسياسات، وتقييم الأداء والدور الذي يمارسونه في المجتمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى