خلال أشهر من الحملات الانتخابية الشرسة اتفق أصدقاء دونالد ترمب وأعداؤه على أمر واحد، وهو أن ولاية الرئيس ترمب الثانية، إذا حدثت، فإنها ستكون أكثر مهنية من الفوضى العارمة المؤذية التي شهدتها ولايته الأولى، ولكن ترشيح مات غايتس ليشغل منصب المدعي العام كان قد ترك حالة من الذهول، حتى في أوساط بعض الموالين للرئيس المنتخب ترمب. فقد أعربت واحدة من كبار المسؤولين الجمهوريين عن صدمتها، فيما وصفه بعضهم بالـ”متهور”، فيما أشار آخر إلى أن ترشيح غايتس يستبعد أنه جدي.
لماذا إذا، قد يثير هذا التعيين هذا القدر من الجدل، وما القيود على سلطة رئيس لم يفز فقط بالبيت الأبيض فحسب، بل فاز أيضاً بسيطرة كاملة ــ كما تأكد الآن – على مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس الأميركي؟ فأين هي تلك الضوابط [القيود] والتوازنات الدستورية الأميركية الشهيرة عندما يصبح شخص من أمثال ترمب رئيساً للبلاد؟
المشكلة التي يثيرها تعيين غايتس تتجلى على عدة مستويات. وهي تتعلق أولاً بشخصيته. فهو محامٍ وعضو في مجلس النواب الأميركي عن ولاية فلوريدا، وقد تعرض للتحقيق معه في مزاعم تتعلق في اتجاره بالفتيات الصغيرات لأغراض الجنس ــ وهي مزاعم نفاها غايتس وقد أسقطت لاحقاً، لكن التحقيق الذي أجرته لجنة الالتزام الأخلاقي في مجلس النواب الأميركي لم تُطوَ صفحته بعد.
إن مجرد الفكرة بأن صاحب مثل هذه السمعة الملطخة قد يعد مرشحاً لشغل منصب رسمي حكومي، هو جزء مما يجده كثر أمراً صادماً. الجزء الآخر من المسألة بالطبع هي الوظيفة المعروضة عليه. فأن تتسلم مسؤولية منصب المدعي العام الأميركي يعني ببساطة أن غايتس سيكون المسؤول الأول عن تطبيق القانون. فكيف يمكن لترمب نفسه أن لا يكون قد لاحظ عدم التطابق الواضح هنا [بين الشخص المختار والمنصب الحكومي].
اقرأ أيضا.. مع ترمب.. هل العالم أكثر استقراراً؟
أم أن ترمب ربما ــ وهنا يأتي المستوى الآخر ــ يرى أن غايتس شخص من أشد الموالين له إلى حد أنه كان قد قدم دعمه لمثيري الشغب في مبنى الكابيتول والكونغرس الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، ويعده من قبيل ملائكة الانتقام [أداة لتنفيذ رغبات ترمب في الانتقام]؟
لا يخفي ترمب اعتقاده أن ولايته الرئاسية الأولى خربت فعلاً على يد النخبة الحاكمة في واشنطن ــ من خلال استخدام تبريرات زعمت (بأن نجاحه في الانتخابات كان ثمرة مساعدة فلاديمير بوتين له) فيما عرف في حينه بـ”روسيا غايت” سلاحهم الأثير. ويتفق مع هذا الطرح كثير من أنصار ترمب، وهو ما يفسر كيف أن القضايا القضائية المختلفة التي كان قد رفعت ضده بعدما ترك منصبه ــ من قضية اتهامه بالاعتداء الجنسي، إلى تهم الاحتيال في دفاتر المحاسبة الخاصة به ــ لم تؤد كلها إلا لتعزيز رصيده السياسي [ترجيح كفته].
كل هذه الاعتبارات هي ما يجعل ترشيح ترمب لغايتس قضية مثيرة للجدل إلى حد كبير، وهي بلغت ذروتها في فكرة أنه قد يكون ترمب مصمماً على استغلال النظام القضائي أو إساءة استخدامه لصالحه، خصوصاً أنه يعتقد أن هذا النظام قد تم تسييسه واستخدامه ضده منذ عام 2016. (من الإيضاحات التي قد تكون مفيدة هنا، هي أن مبدأ القضاء المسيس ربما لا يكون أمراً غريباً في بلد يتم فيه انتخاب معظم القضاة، على خلاف الأمر المعتمد مثلاً في المملكة المتحدة وغيرها من البلدان)، لكن هذا قد لا يعني أن الرئيس، حتى واحداً يتمتع بسيطرة على السلطة التنفيذية والتشريعية ونجح في الفوز بغالبية من أصوات الناخبين، قد يمكنه ممارسة سلطاته على نحو استبدادي كما أشار البعض ــ ومن ضمن هؤلاء خصومه من المرشحين السابقين.
أولاً، ليس من المؤكد بعد ترشيح غايتس سيصادق عليه مجلس الشيوخ، كما هو مطلوب. فالغالبية التي يتمتع بها الجمهوريون في مجلس الشيوخ تقتصر فحسب على ثلاثة مقاعد، وذلك يعد هامشاً ضئيلاً، وقد أعرب عدد كاف منهم بالفعل عن شكوكهم، مما يجعل المصادقة على تعيينه لشغل المنصب أمراً غير مرجح، بل يمكن القول إنه ومن خلال مجرد حصوله على ترشيح الرئيس المنتخب فإن ذلك لا بد أن يكون بادرة شكر كافية بحد ذاتها.
لكن ترمب ربما يأمل أنه من خلال الإعلان عن المرشحين في إدارته المقبلة في وقت مبكر، قد يسمح في التعامل معها على أنها تعيينات خلال فترة إجازة مجلس الشيوخ [الذي عادة ما يصادق أو يرفض المعينين]، مما يعني أنه سيسمح لهم في البقاء في مناصبهم حتى انتهاء فترة ولاية الكونغرس الحالي، أي إن المرشحين قد يتسلمون مناصبهم من دون المثول أمام مجلس الشيوخ للمصادقة على أهليتهم. إن من شأن ذلك أن يمنح غايتس – وجميع مرشحي الرئيس المنتخب الجديد الآخرين – مدة تصل إلى عامين في المنصب، وإن كانت معارضة الكونغرس لتلك التعيينات ستكون في الغالب شرسة للغاية.
حتى ومع سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الكونغرس، ومهما كان مستوى تنظيم البيت الأبيض الذي يترأسه هذه المرة، فإن سلطة ترمب قد لا تكون منفلتة العقال تماماً كما يخشى. وفي حين أنه يتمتع الآن بالغالبية المعنوية جراء فوزه بالتصويت الشعبي، يجب أن نتذكر أنه كان في وضع مماثل في بداية ولايته الأولى، ومع ذلك واجه عقبة تلو الأخرى.
أحد الدروس المستقاة من تلك السنوات هو أن المحكمة العليا، حتى مع وجود غالبية من القضاة الذين عينهم الجمهوريون على رأسها، قد لا يعول عليها لتغليب مصلحة الحزب الجمهوري على اجتهادهم القانوني. والدرس الآخر هو أنه حتى ولو تمكن ترمب من إخضاع العدالة الفيدرالية لإرادته (من خلال تعيينه غايتس وربما غيره من المعينين)، فإن الولايات والمدن تتمتع باستقلالية إلى حد كبير في الشؤون القضائية كما في كثير من الأمور الأخرى. وهذا يمكن أن يقيد فعلياً السلطات الفيدرالية.
قد تكون هناك مواجهات قانونية أيضاً – على سبيل المثال، حول أي مساعٍ فيدرالية لترحيل المهاجرين غير المسجلين من المدن التي تعد ملاذات آمنة لهؤلاء، بعد تعهدها بتوفير الحماية لهم. ومن المحتمل أيضاً أن تؤدي الاتهامات المعلقة ضد ترمب في ولاية جورجيا وفي نيويورك إلى تقييد يده جراء تعقيدات قانونية، حتى لو أرجئ العمل بهذه الإجراءات القانونية الفعلية، وهو أمر يبدو أنه مرجحاً، أو لو تخلي عنها.
وقد يكون الوقت السانح أمام ترمب لتنفيذ مثل هذه الإجراءات غير المقيدة نسبياً محدوداً أيضاً. فقد تصبح سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونغرس ضعيفة في الانتخابات النصفية التي ستجري بعد عامين، وهو ما أدى إلى زيادة العقبات في وجه إدارته خلال ولايته الأولى، بعد استعادة الديمقراطيين سيطرتهم على مجلس النواب.
وقد يمكن الرد على ذلك الطرح بأنه بالنسبة لرئيس منظم بصورة جيدة وحازمة، مثل النسخة الثانية لترمب، فإن عامين لا يمكن التقليل من أثرهما، إذ يمكن لترمب أن ينجز كثير من الأعمال الإيجابية أو الشريرة، في تلك الفترة، ولكن كما كان عليه الحال في ولايته الأولى، هناك المحاكم، وهناك أيضاً معارضون له في أوساط حزبه في الكونغرس، وهناك حكام الولايات الذين يتمتعون بسلطة تنفيذية وقضائية وتشريعية خاصة بهم، وكما كان عليه الحال في ولاية ترمب الأولى، قد تكون هناك جماعات مدنية مستعدة للخروج إلى الشارع للتعبير عن معارضتها.
حتى بالنسبة إلى رئيس كان قد حقق فوزاً حاسماً مثل ترمب في انتخابات عام 2024 فإنه يواجه قيوداً على سلطاته. ومن غير المرجح أن يؤدي تعيين شخص لا شك في ولائه من أمثال نات غايتس كمسؤول رئيس عن إنفاذ القانون، فإنه من غير المحتمل أن يؤدي ذلك إلى إلغاء الضوابط على السلطة التنفيذية التي أثبتت قدرتها على الصمود على مدى أكثر من 200 عام.