بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي غير المتوقع للعالم في نهاية عام 1991، لم يترك الغرب بقيادة أميركا لروسيا الاتحادية في الفترة التي تلت الانهيار أن تخرج من تحت عباءته، وحاول أن يفرض عليها أيديولوجيته الليبرالية ويقيدها في مساحتها الجغرافية الكبيرة دون أن يكون لها أي دور سياسي فعلي على الصعيدين العالمي والإقليمي، أي لم يحسب أي حساب لمصالح روسيا الجيوسياسية والاقتصادية. ومثلت مرحلة حكم الرئيس الروسي الأسبق وأول رئيس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بوريس يلتسين (1991 – 1999)، المدعوم من قبل أميركا تجربة روسية مرة لمحاولة فرض سياسات الغرب على روسيا الاتحادية. هذه الفترة التي ثار عليها فلاديمير بوتين عندما تولى الحكم في عام 2000 إلى يومنا هذا.
ولكن، هل نجح الغرب فعليا في هذا؟ والأصح أن يُسأل: ألم يتسرع الغرب بقيادة الولايات المتحدة بمحاولة فرض سياساته المتشددة على روسيا الاتحادية بالشكل الذي حدث، وتحويلها من دولة شبه إمبراطورية لها تاريخها العميق وأهدافها الجيوسياسية الواضحة، إلى دولة تتبع سياساته وتوجيهاته؟
هل كان لنشوة الانتصار الأميركي على الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة (1945 – 1991) دور غير مدروس إستراتيجيا أدى إلى ما وصلت إليه روسيا اليوم من حربها ضد أوكرانيا منذ فبراير 2022، وقبل ذلك ضمها للقرم عام 2014، وإعلان فلاديمير بوتين مرات عديدة أن الغرب بقيمه وسياسات حلف الناتو التوسعية يمثل خطرا على روسيا، مؤكدا أنه لن يَتسامح مع هذا الخطر؟
التسعينات من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين مثلت ذروة القوة الأميركية العسكرية والسياسية، حتى صارت تستفرد بحكم العالم فعليا، وتضع قواعد اللعب والصراعات السياسية العالمية كما تريد، وكان في تصورها أن حالة الأحادية القطبية ستستمر، أو أن باستطاعتها أن تخطط دائما لاستمرارها. ولكن، سرعان ما انشغلت الولايات المتحدة بقضايا الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لتغرق في أوحال أفغانستان (2011)، والعراق (2003)، ويجد بوتين الفرص لكي ينفذ مخططاته السياسية ويحاول أن يحقق أحلامه باستعادة أمجاد روسيا الماضية.
لا يعني ذلك غفلة الولايات المتحدة عن روسيا، بقدر ما يعني أن الأولويات السياسية الخارجية الأميركية اضطربت في تلك الفترة، وهو ما هيأ لإحداث تغييرات في موازين القوى في العالم، تمثلت في صعود الصين، وعودة روسيا الاتحادية قوية، وسعيهما لتشكيل عالم متعدد الأقطاب، تكونان فيه من الأقطاب القوية والمسيطرة في محيطهما الآسيوي والأوراسي.
الدرس الذي يمكن تعلمه من الفترتين، فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونشوة أميركا بالأحادية القطبية، وفترة ما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول واحتلال العراق هو:
أولا: لا تمارس ضغوطا كبيرة على عدوك حتى لا ينفجر بوجهك حين يجد الفرصة، أو لا تدعه يخلق الفرص للتمرد على النظام الذي صنعته بيديك على غفلة منه.
ثانيا: دع الأولويات الإستراتيجية مرنة، لتتحرك في كل ساحات الصراع بمرونة. إن كنت تريد الحفاظ على زعامة عالمية.
ثالثا: ليست هناك قوة هامشية في العالم، فكل قوة بإمكانها التأثير في الصراعات العالمية.
أخيرا: لا تقلل من حجم العدو وما بإمكانه فعله، حتى لا تفاجأ بتحركاته.
بالتأكيد هناك دروس أخرى لكي تتعلمها الدول والمجتمعات من تلك الفترتين، وروسيا بقيادة بوتين لم تترك هذه الدروس تضيع هباء، سواء اتفقنا مع بوتين في سياساته أم لم نتفق.