انهيار الاقتصاد الفلسطيني.. ماذا ينتظر الأشقاء العرب؟
ان أسوأ ما يستخدمه بعض العرب (بطلب من الراعي الأميركي) من تبرير لعدم الايفاء بالتزامهم المالية للشعب الفلسطيني هو فساد السلطة الوطنية، لا أحد ينكر ان هناك بعض مظاهر الفساد، والسلطة تعترف بذلك وتعمل على مواجهته، وصحيح ان السلطة بحاجة لتصويب في بعض جوانب ادائها ولكن مَنْ مِنْ تلك الدول يمكن ان يدعي الطهارة التامة ونظافة الحال؟
كل من يقرأ التقرير الذي نشرته وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا” بخصوص انهيار القطاع الصحي الفلسطيني، يصاب بالفزع والقلق الشديد. والمقصود هنا ليس القطاع الصحي في قطاع غزة، الذي دمرته ولا تزال تدمره الآلة العسكرية لجيش الاحتلال، إنما ايضا القطاع الصحي في الضفة الغربية. هذا التقرير وان تناول ديون وزارة الصحة الفلسطينية ونقص الدواء الكبير وتراجع الخدمات، الا انه يعكس واقع الاقتصاد الفلسطيني، الذي يوشك على الانهيار بسبب الحصار المالي على السلطة الوطنية الفلسطينية، وعلى الشعب الفلسطيني عموما.
صحيح ان سلطة الاحتلال الإسرائيلي هي المسؤول الأول والرئيسي عن هذه الأزمة المالية والاقتصادية، الا هذا الحصار المالي الإسرائيلي ترافق، مع الأسف، مع عدم التزام الدول العربية، باستثناء الجزائر، بشبكة الأمان المالي العربية، التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002. قسم من هذه الدول لم يلتزم أصلا بقرار القمة، والقسم الآخر التزم لفترة بسيطة وتوقف، ومنذ حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والترويج لصفقة القرن في الأعوام من 2017 وحتى 2020 توقفت كل الدول ولم تعود أي منها للدفع إلا في مرات نادرة جدا.. وهنا يتساءل الفلسطينيون: لماذا هذا التزامن بين الحصار الإسرائيلي المالي وتوقف الولايات المتحدة عن تقديم مساعدتها وتوقف الدول العربية عن الدفع؟
بدأت إسرائيل بخصم الرواتب التي تمنحها السلطة الوطنية لعائلات الشهداء والأسرى منذ نيسان/ ابريل عام 2019، السلطة أصرت على مواصلة دفع هذه الرواتب لأنها لا يمكن ان تفعل العكس، فهؤلاء كما اعتادت الأدبيات السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، تقول: “ان هؤلاء انبل من فينا” لما قدموه من تضحيات، والسلطة والقيادة الفلسطينية لن تفعل لأنها لو فعلت ستكون اعترفت بأن هؤلاء ارهابيون كما تروج وتدعي إسرائيل. ومنذ ذلك التاريخ دأبت السلطة الوطنية على مطالبة الدول العربية بالالتزام بشبكة الأمان العربية ولكن لا حياة لمن تنادي.
ومنذ ذلك الحين ومن منطلق التكافل، لم يحصل الموظفون إلا على نصف راتب شهريا، بمعنى ان هذا الموظف وبعد أكثر من خمسة أعوام أصبح يصنف من الفقراء في المجتمع، والمسألة هنا لا تتعلق بالموظفين وعائلاتهم وإنما أيضا بانهيار القدرة الشرائية في السوق، جراء تدهور الاقتصاد التدريجي. ومما ضاعف الأزمة ان الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، وبالتحديد وزير ماليتها المتطرف سموتريتش، قد شدد من الحصار المالي عندما اتخذ قرارا بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بخصم كل الميزانية الشهرية التي كانت تخصصها السلطة الوطنية الى قطاع غزة من المقاصة والبالغة 135 مليون دولار، ما فاقم الأزمة ووصل معها الاقتصاد الفلسطيني الى حافة الانهيار التام وزاد من معدلات الفقر لتصل ما يقارب الـ 60%.
تقرير وكالة “وفا” عن القطاع الصحي كشف ان ديون وزارة الصحة بلغت 2,7 مليار شيقل، أي ما يعادل 650 مليون دولار، لكن الرقم الأكثر خطورة هو حجم الديون العامة المتراكمة على السلطة الوطنية، التي تجاوزت 11 مليار دولار. في المقابل بلغت قيمة الأموال التي تحتجزها إسرائيل من قيمة المقاصة، أي الضرائب الفلسطينية التي تجبيها إسرائيل، 6 مليارات شيقل، أي ما يعادل مليارا و700 مليون دولار.
وفي ظل الحرب القائمة الآن، سواء في قطاع غزة او الضفة فإن السلطة الوطنية تعيد، على سبيل المثال، بناء كل ما تدمره إسرائيل من بنى تحتية في المدن والقرى قي الضفة الغربية، وما يقوم بحرقه وتدميره المستوطنون، وهذه العملية لا تقتصر على الحرب الأخيرة أو السنوات الأخيرة مع تزايد وحشية دولة الاحتلال، وانما طوال الوقت، فهي بحكم مسؤوليتها تعيد تعبيد الشوارع وبناء شبكات الصرف الصحي والكهرباء والماء وتعوض بنسبة خسائر المواطنين التي تهدم أو تحرق بيوتهم ومحالهم وورشهم، فعلينا ان نتخيل كم تحتاج هذه المسألة من مال.
لقد قامت السلطة الوطنية ببناء مئات المدارس والمستشفيات، بالإضافة الى البنى التحتية، لقد تسلمت السلطة الوطنية المناطق الفلسطينية العام 1994 من سلطات الاحتلال وكانت بناها التحتية متهالكة، والخدمات والقطاعات بالكاد تكفي، قفامت بشق الطرق وتعبيدها، وأقامت شبكات الصرف الصحي والكهرباء والماء، بالإضافة الى مؤسسات الدولة المختلفة، كما بنت في غزة محطة الكهرباء ومطار، وتحولت غزة وباقي مدن القطاع الى مدن حديثة، وعلى سبيل المثال الغالبية العظمى من المستشفيات التي تقوم إسرائيل بتدميرها في الحرب الجارية منذ ثمانية أشهر بنتها السلطة الوطنية، وكافة المؤسسات وجمعية الهلال الأحمر والدفاع المدني التي تقوم بدور عظيم في الحرب.
ان أسوأ ما يستخدمه بعض العرب (بطلب من الراعي الأميركي) من تبرير لعدم الايفاء بالتزامهم المالية للشعب الفلسطيني هو فساد السلطة الوطنية، لا أحد ينكر ان هناك بعض مظاهر الفساد، والسلطة تعترف بذلك وتعمل على مواجهته، وصحيح ان السلطة بحاجة لتصويب في بعض جوانب ادائها ولكن مَنْ مِنْ تلك الدول يمكن ان يدعي الطهارة التامة ونظافة الحال؟ فالمثل الشعبي يقول “من كان بيته من زجاح فعليه الا يرجم الآخرين بالحجارة”، او “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمني بحجر”.
بالطبع لا أحاول تبرير بعض مظاهر الفساد في أداء السلطة، ولكن استهجن أن يتحول ذلك الى شماعة لتعليق كل أشكال الابتزاز السياسي عليه. ومع ذلك نقول ان علينا أن نحارب كل أشكال الفساد مهما كان محدودا لأنه بخطر الاحتلال. ثم بإمكان المانحين أن يضعوا آلياتهم للرقابة بما يتعلق بكيفية التصرف بأموالهم، ويبقى السؤال: ماذا يتنظر العرب؟ ان ما نخافه ان ينتظروا طويلا الى ان ينهار الشعب الفلسطيني وكيانه السياسي بالرغم من الاعتراف المتزايد بالدولة الفلسطينية.