يقول الفيلسوف الماركسي جي جيك إنه من السهل تخيل زوال العالم على تخيل زوال الرأسمالية؛ هذا القول يعبر عن هيمنة السوق على الفرد وعلى صناع القرار، لدرجة أن مفكري اليسار استسلموا بأن الرأسمالية قدر، وبهذا الاستسلام انتقل القرار من الساسة إلى السوق؛ فمن يرِد النجاح فعليه كسب رضا السوق؛ بهذه المعادلة انهزم اليسار في عمقه الفكري القائم على حتمية سقوط الرأسمالية، واعترف مرغماً بسؤدد السوق.
وصاحب ذلك انتقال شعارات اليسار إلى أحزاب اليمين المتشدد التي تعلن وجاهة دفاعها عن المسحوقين، ومؤسسات الدولة، وعن التقاعد المبكر وتحسين الضمانات الاجتماعية والصحية. فحزب التجمع الوطني اليميني الفرنسي المتشدد بزعامة ماري لوبان، ومعه تيارات يمينية متشددة في أوروبا ألبسوا خطابهم نكهة يسارية، وبذلك تبدلت الجينات السياسية فأصبح اليسار يؤمن بالسوق، واليمين المتشدد بالحريات والضمانات الاجتماعية.
في هذه السريالية يستعد زعيم حزب العمال البريطاني، كير ستارمر، وارث زعامة كوربن اليساري المتشدد، لتجربة نظرية: لا هي يسارية متشددة لمعرفته برفض الناخبين لها، كما رفضوا قبله كوربن، ولا هي منحازة كليةً للسوق. بهذا التكتيك يوازن بين متطلبات السوق وبين متطلبات الناخب، ويقف في الوسط؛ لكن للسوق منطقها وللناخب منطقه، وكلاهما متناقض، وهذا التناقض سيجعله غير قادر على الموازنة وتحقيق مطالبهما معاً. فالناخب أصبح متيقناً أن السوق أفقرته وأنها ازدادت غنى على حسابه؛ فحكومة المحافظين الموالية للسوق رفعت شعاراً، خلال الأزمة المالية في عام 2008 وبعده، أننا كلنا في الأزمة سواء فأنقذت بهذا الشعار البنوك من الإفلاس، وحمَّلت الناخبين تكاليف ومغامرات البنوك وجشع الشركات؛ فالقاعدة في السوق: أن من يفلس يخرج من السوق، لكن حكومات المحافظين، أبقت المفلسين، وحمّلت المتضررين تكاليف التفليسة. وتؤكد كل المؤشرات أن السوق الممثلة للأغنياء والمستثمرين، وأصحاب المصانع، والبنوك بالذات، عوّضوا خسائرهم من جيوب الدولة، التي عمدت للتسيير الكمي، وإلى فرض ضرائب، وتخفيف الإنفاق على القطاعات العامة، فلم تعد المستشفيات قادرة على مداواة المرضى، ولا المدارس على سد النقص في الكادر التعليمي، ولا الخدمات العامة قادرة على الاستجابة لحاجات الناس؛ لذلك فإن إعلان حزب العمال نيته تحسينَ الخدمات العامة، وإعادة تأميم خطوط المواصلات، وإنشاء هيئة عليا للطاقة، والنظر في استرجاع مؤسسات عامة من حوزة القطاع الخاص، يرضي الناخب تماماً، لكنه يُخوِّف السوق؛ فالناخب يريد تحسين وضعه، ولكن حزب العمال، مثل حكومة المحافظين، بضغط من السوق، يخاف من الاستدانة، ويطمئن السوق، والناخب، بأنه بطريقة سحرية سيضمن ذلك بلا زيادة ضرائب ولا استدانة. هذا أقرب إلى المحال.
إن أكثر شيء تكرهه السوق هو زيادة مديونية الدولة، وكذلك عدالة توزيع نتاج النمو الاقتصادي على المواطنين، تحت شعار «التشارك في الخير العام»؛ وذلك لأن السوق تؤمن بالتنافس وأن الأقوى يبقى؛ هذا يعني أنه ليس من حق أحد مشاركة الرابح في أرباحه، وأن فكرة تكافل المجتمع ضررها أكثر من نفعها؛ هذا التفكير نابع من نظريات اقتصادية وراءها مدارس فكرية مثل مدرسة شيكاغو، واقتصاديون مثل فردريك حايك، وجميعهم يؤمنون بما قالته رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر، بأنه لا يوجد مجتمع بل يوجد أفراد؛ هذا يعني أن الدولة ليس مهمتها إحلال العدالة الاجتماعية، بل فقط الأمن وضمان فاعلية السوق. والعجيب أن اليسار يؤمن نظرياً بأن تحرير السوق من القيود سيؤدي إلى إفقار الناس، لكن حزب العمال حرصاً على إرضاء السوق، استبدع معادلة جديدة: داخلياً تحقيق الأمان الاقتصادي، وخارجياً السياسة الواقعية التقدمية؛ ولضمان الأمان الاقتصادي تحتاج بريطانيا إلى تأمين سلاسل الإمداد لكي لا تعتمد على دول أخرى، وإلى بناء المصانع لتشغيل اليد العاملة، وتشجيع الاستثمار، وزيادة النمو الاقتصادي، وبناء البنية التحتية؛ ولتحقيق ذلك عليها أن ترفع الضرائب أو تلجأ للاستدانة.
أما السياسة الواقعية التقدمية، فترى أن بريطانيا دولة متوسطة وليست عظمى، وعليها التواضع بسياستها الدولية، والتعامل مع دول لا تتفق معها بالمبادئ لأن الأولوية للمصالح الاقتصادية والتوازنات الدولية؛ وفكرة «التقدمية» تفسيرها أن بريطانيا لا تتخلى عن شعاراتها الأخلاقية، بل تصمت وإذا ما ظهرت فرصة تُمكِّنُها من تحقيقها، فلن تُفوِّتها. هذا يعني إسقاط العنصر الأخلاقي. بهذا النهج الفكري يتخلى حزب العمال عن شعار الاشتراكية، وهزيمة الرأسمالية، ويستسلم للسوق، وباسم الواقعية يتبرأ من المبادئ بستار حماية المصالح.
كل المؤشرات تدل على أن حزب العمال سيواجه أزمات، وأنه سيفشل، وسيكون البديل مستقبلاً إما يسارياً متشدداً، أو يمينياً متطرفاً، وكلاهما خطر على المجتمع، وعلى السوق. لكن السوق دوماً قادرة، بالنظر لتاريخها، على التأقلم مع التبدلات والظهور بثوب معتدل، بانتظار الفرصة السانحة لتكشر عن أنيابها الاستغلالية وتظهر بشاعتها الأخلاقية.