تكمن غاية التكتّلات السياسية بتوحيد سياسات القوى المتحالفة لتحقيق أهدافٍ مرحليةٍ أو بعيدة المدى، تعكس مصالحها المشتركة. ومع أن نشوء التكتّلات السياسية في اليمن ارتبط بتوحيد قوى المعارضة، فإنها تحوّلت، في ظلّ الحرب، أداةً لإدارة الصراع بين معسكرات الحرب أو لتثبيت هيمنة القوى المتنافسة، ما أدّى إلى تعميق التشرذم الوطني أكثر من تحقيق اصطاف سياسي، وإذا كان احتكار جماعة الحوثي السلطة أعاق إمكانية تشكيل تحالفاتٍ موازيةٍ لها أو خارج سلطتها، فإن ديناميكية مشهد سياسي متجاذبٍ ومتعدّد الأقطاب في المناطق المحرّرة أنتج حالةً من التشظّي والتنافس، تمظهرت بتشكيل تكتّلاتٍ سياسيةٍ من وقت إلى آخر، بحسب مقتضيات المرحلة.
أعلن، في الخامس من الشهر الحالي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، في مدينة عدن تشكيل التكتّل الوطني للأحزاب والمكوّنات السياسية اليمنية تحالفاً سياسياً موسّعاً لإسناد سلطة المجلس الرئاسي، وأقرّ التكتّلُ التزام المرجعيات الوطنية والإقليمية والدولية لإقامة دولة اتّحادية، وصدّر أولوياته بالعمل على استعادة الدولة وتوحيد القوى السياسية لمواجهة انقلاب جماعة الحوثي، إلى جانب حلّ القضية الجنوبية، والعمل لإصلاح الحكومة، وتراهن أحزاب التكتّل (كما يبدو) على استثمار المتغيّرات الدولية والإقليمية لترتيب أوراقها تحسّباً لأيّ حراكٍ سياسيٍّ ينهي الحرب في اليمن.
ومن ثمّ محاولة إسناد المجلس الرئاسي طرفاً سياسياً في مقابل جماعة الحوثي، إلّا أن التحدّيات التي يواجهها التكتّل تتنوّع، من معوّقات تكريس اصطفاف سياسي موحّد بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب في اليمن، غير خريطة التحالفات السياسية وولاءات القوى الفاعلة المنضوية في التكتّل، إلى جانب تنافسها على السلطة، وتوزّع ولاءاتها بين حلفائها، وتحدّيات علاقتها مع قوى خارج التكتّل، معارضةٍ لها، وتنشط في المناطق المحرّرة، فضلاً عن إشكالية إصلاح اختلالات السلطة والحكومة.
تتأسّس فاعلية التكتّلات السياسية، بما في ذلك استمراريّتها على قدرة القوى المتحالفة في توحيد سياساتها الداخلية لتحقيق هدف سياسي مشترك، ما يقتضي بدايةً تجسير الهوّة بين المتحالفين، وإيجاد أرضيةٍ تصالحيةٍ، سواء على مستوى المكوّنات أو قواعدها الشعبية، إلى جانب تمثيلها مصالح المواطنين، وامتلاكها القرار السياسي، وبعيداً عن الشعاراتية التي تُقحِم مسمَّى “وطني” في اصطفافات صراعية لا تلبّي حاجة اليمنيين لوقف الحرب، ولا تحقّق مصالحهم بل تغذّي دورات قادمة من الصراع، فإن تكتل الأحزاب لم ينشأ من تفاهمات بينية أنتجتها مقاربات معمّقة للوضع اليمني ووضع معالجاتٍ للخروج من الأزمة، سواء في شقّها السياسي أو الاقتصادي، بل استجابة لإرادة الفاعلين الدوليين والإقليميين، التي تتّجه (كما يبدو) نحو بلورة اصطفافات سياسية تهدف إلى تغيير المعادلة السياسية في مقابل جماعة الحوثي.
ومن جهة ثانية، فإن استلاب قرار قوى التكتّل السياسي لصالح حلفائها يجعلها خاضعةً لإرادتهم، ومرهونة بهم. وإذا كانت السعودية (الطرف الرئيس والمهيمن على معسكر خصوم الجماعة) قد ظلّت، وعلى مدى سنوات، تتبنّى استراتيجيةَ تشكيل تكتّلات سياسية لإسناد السلطة الشرعية، وإن فشلت في تحقيق ذلك، جرّاء تصادم أولوياتها مع أولويات منافسها الإقليمي، الإمارات، فإن تشكيل المجلس الرئاسي، سلطةً توافقيةً (ضمّ وكلاءها ووكلاء الإمارات) لم يعزّز إسنادها في الأرض.
ولتجاوز هذه الإخفاقات، سعت السعودية، بجهود أميركية وأوروبية، إلى دفع القوى السياسية لتشكيل تكتّل يضمّ جميع القوى المنضوية في المجلس الرئاسي لتحقيق توازن مع جماعة الحوثي مستقبلاً، ينهي تدخّلها في اليمن، بيد أن هذه الغاية تعيقها أجندة حليفها الإماراتي، الذي يسعى أيضاً إلى ترتيب أوراق وكلائه في اليمن، ومن ثمّ (وإلى جانب هذه التناقضات الناشئة من تنافس الداعمين وقد يقوّض أيّ مستوىً من اصطفاف سياسي لخصوم الجماعة) فإن على التكتّل التعاطي مع ذلك، إلى جانب تحدّيات أخرى.
في المقابل، تعكس التكتّلات السياسية خريطةَ توزيع النفوذ الذي يخضع لمركز القوى المتحالفة وثقلها في الأرض، وبالتالي، يهيمن الطرف الأقوى على قراراتها، ومع انضواء أكثر من 23 حزباً ومكوّناً سياسيّاً في التكتّل المُعلَن، بما في ذلك أحزاب يسارية وقومية، فإن الثقل الرئيس يتوزّع ما بين حزب المؤتمر الشعبي العام والتجمّع اليمني للإصلاح، وفي حين يضفي انضواؤهما في التكتّل أهميةً على التكتّل، من ناحية القوّة السياسية والتمثيل، إلى جانب أنه أوّل تحالف سياسي مُعلَن بين الخصمَين بعد عقود من الصراع، إلا أنه يجعل التكتّل خاضعاً لعلاقتهما المتنافسة وتجاذباتها، ومن ثمّ يحوّل القوى الأخرى قوىً هامشيةً من جهة التأثير في توجّهات التكتّل.
ومن جهة أخرى، وفي إطار العلاقة المتجاذبة بين الحزبَين، هناك تحوّلٌ لافتٌ من حيث القوّة، ينسجم مع الدور المحوري لحزب المؤتمر في المعادلة السياسية، أدّى إلى تصعيده سياسياً على حساب “الإصلاح”، الذي ظلّ سنوات سابقة القوّةَ الرئيسةَ لإسناد السلطة الشرعية، وترجم ذلك بمنح المؤتمر رئاسة التكتّل، ومن ثمّ، فإن ذلك يعزّز إمكانية تزعّمه اصطفافاً سياسياً يدعم سلطة المجلس الرئاسي أو على الأقلّ يمدّ التكتّل بزخم شعبي، ولحرص المؤتمر على منح التكتّل شكلاً تحالفياً أوسع يتجاوز بنية الصراع السابقة تكشف انضواء مكوّنات تابعة له. فإضافةً إلى حزب المؤتمر الشعبي، حضر المكتب السياسي للمقاومة الوطنية (جناح العميد طارق محمد صالح)، وكيانات هامشية موالية للمؤتمر، كحزب التضامن.
ومع أهمية ذلك، لا يعني إمكانية توحيد أجنحة حزب المؤتمر على مستوى الخطاب السياسي والتوجّه، وذلك جرّاء التنافسات ما بين أجنحته وتعدّد مظلّاته السياسية، وأيضاً تعدّد ولاءاتها ما بين قوىً تراهن على علاقتها مع السعودية، وقوىً أخرى (أكثر فعّالية) تخضع لسياسة حليفها الإماراتي. في المقابل، يحضر حزب الإصلاح بحضور تمثيلي يماثل المؤتمر، إلّا أن المحكّ ليس انضواء الخصمَين في التكتّل، بل قدرتهما على تجاوز خلافاتهما وتعزيز اصطفاف سياسي في معسكر خصوم جماعة الحوثي، وإذا كانت مصالح القوى المنضوية في التكتّل تشكّل تحدياً جوهرياً لاستمراريته وفعّاليته، فإن إصلاح سلطة المجلس الرئاسي هو محطّ اختبار لقوى التكتّل، ويعني إصلاح نفسها أولاً.
اقرأ أيضا| اليمن والحاجة إلى بنية سلطة متماسكة
تتمايز القوى السياسية المنضوية في التكتّل الوطني من جهة التمثيل في منظومة سلطة المجلس الرئاسي وفي مفاصل الدولة، إلّا أنها (بالمجمل)، ومن خلال أدائها، قوىً معيقةٌ لإصلاح الدولة وتثبيت وجودها في المناطق المحرّرة، لأنها تنازع الدولة وظائفها، وتصادرها لصالح كياناتها وأجهزتها، ناهيك عن تقييدها عملَ الحكومة وإضعافها. ومن ثمّ، فإنها جزء أصيل من فشل السلطة. ينطبق ذلك على مجمل الأحزاب والقوى المنضوية في التكتّل، وإن تحمّل “المؤتمر”، و”الإصلاح” كذلك، مسؤوليةً أكبر.
فإلى جانب أنهما أكبر حزبين من حيث التمثيل في السلطة، فإن الأجهزة العسكرية والأمنية التابعة لهما، لا تنازع الدولة احتكارها القوّة فقط، بل تقوّض إمكانية تثبيت سلطة موحّدة، إلى جانب أنهما (من خلال سلطات الأمر الواقع التابعة لهما) يعوقان توحيد مؤسّسات الدولة وأجهزتها، وإن تزعّما تعزيز اصطفاف السلطة، فإنهما يقوّضان مظاهرَ هذا الاصطفاف، فيكرّسان من خلال تسييج نفوذهما هيمنتَهما طرفَين، ما يعيق إمكانية إصلاح المجلس الرئاسي سلطةً توافقيةً، ناهيك عن استعادة الدولة، ليس من جماعة الحوثي، بل في المناطق المحرّرة.
في المقابل، تتمظهر إشكالية أخرى تمثّل تحدّيا آخرَ للقوى المنضوية في التكتّل، لا من جهة صعوبة تحسين الوضع الاقتصادي جرّاء ارتهانه لمنح المتدخّلين، بل في فكّ التضافر ما بينها قوّةً تدعو إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي وبين اختلالات أدائها الوظيفي وفسادها، إذ إن الفساد المتجذّر في مفاصل الدولة، وفي الحكومة، وفي سلطة المجلس الرئاسي، ناشئ عن فساد هذه القوى نفسها التي تتقاسم السلطة وتديرها لصالحها. ومن ثمّ متورّطة في نهب المال العام والتربّح السريع، وتقتضي محاربة الفساد أولاً، إقرارها بالمسؤولية، وتقديم أعضائها من المتورّطين في قضايا فساد إلى نيابة الأموال العامّة، وأيضاً طرح آليةٍ واضحةٍ لمعالجة الفساد في مرافق الدولة.
في النهاية، إن خلق اصطفاف سياسي أيّاً كانت أهدافه وشعاراته، يصطدم بالواقع الذي أنتجته هذه القوى، وفي حالة التكتّل الوطني فإن تنافسات الأحزاب المنضوية في التكتّل وتمثّلاتها لأجندة داعميها ضحّى بإمكانية أن تصبح حاملاً لمشروع وطني جامع يمثل اليمنيين، ويلبّي مطالبهم، في مقابل حرصها على التمثيل في السلطة وتكريس واقع استقطابي بينها وبين منافسيها وخصومها، ومن جهة أخرى، فإن تكتّل الأحزاب.
إن حرص على توحيد معركته ضدّ جماعة الحوثي (سياسياً على الأقلّ في الوقت الحالي)، فإنه قد يدفع من خلال هذا الاصطفاف إلى تكريس اصطفاف مضادّ، ما يؤدّي إلى تصعيد الصراع في المناطق المحرّرة، وذلك بتصدير نفسه تكتّلاً سياسياً شرعياً، يمثّل مشروعَ الدولة الاتحادية، وفق المرجعيات التي أعلن توافقه حولها، في مقابل المجلس الانتقالي الجنوبي، الطرف الفاعل في الساحة الجنوبية، وشريك قوى التكتّل في سلطة المجلس الرئاسي، ومع تضمين التكتّل هدف حلّ القضية الجنوبية، فإن الانتقالي (مع تمسّكه بأجندته الانفصالية) قد يمضي بترتيب من حليفه الإماراتي في دعم موقعه قوّةً تتزعمّ تكتّلاً جنوبياً، ما يعني، في ضوء مقامرة أطراف الحرب في اليمن كلّهم، تكريس مناخ الأزمة والحرب.