الهجرة والمهاجرون.. ملف يقلب موازين الانتخابات التشريعية بفرنسا
لا يزال ملف الهجرة والمهاجرين يحتل مكانة كبرى في الدول الأوروبية عامة، ومع بدء التصويت في سباق الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا، بات الملف نقطة جوهرية بين برامج الأحزاب الرئيسية.
وتشير التقديرات الأولية إلى أن ملف الهجرة غير النظامية أصبح “ورقة رابحة” لتيار اليمين المتطرف الذي يحاول جذب قطاعات من الناخبين يرون أنهم الأحق من المهاجرين في بلادهم.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قرر حل الجمعية الوطنية، (الغرفة الأولى في البرلمان)، والدعوة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة يومي 30 يونيو و7 يوليو لاختيار النواب الذين سيشغلون مقاعدها الـ577، وذلك بعد أن جنى حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا أكثر من 31 بالمئة في الانتخابات الأوروبية التي أجريت في 9 يونيو الجاري.
وتتباين مواقف التكتلات الحزبية الرئيسية في فرنسا بشأن ملف الهجرة، إذ يعتبره البعض أصل كل المشاكل فيما يراه آخرون في أشد الاحتياج إلى التقليص أو التقنين، غير أن تيار اليمين المتطرف يظل هو الأكثر حظوظا بالاستطلاعات إلى التحالف الرئاسي الحاكم في محاولة لاستقطاب الناخبين.
وفي أول مناظرة متلفزة بباريس لطرح البرامج الانتخابية، شهد ملف الهجرة حضورًا لافتًا في كلمات ممثلي الكتل السياسية الرئيسية الثلاث المنخرطة في معركة التشريعيات.
والثلاثاء الماضي، شارك في مناظرة رئيس التجمع الوطني اليميني المتطرف جوردان بارديلا، ورئيس الحكومة غابرييل أتال، ممثلا عن معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون، ومانويل بومبارد منسق حزب الجبهة الشعبية اليسارية.
وإزاء مواجهة وصول شبح أول حكومة يمينية متطرفة في تاريخ فرنسا وجمعية وطنية، حذر الرئيس ماكرون من أن برامج من أسماهم بـ”المتطرفين” من شأنها أن تقود البلاد إلى “حرب أهلية”.
وجاء ملف الهجرة في صدارة برامج التكتلات الرئيسية بالتشريعات كالتالي:
أولاً: كتلة التجمع الوطني/ اليمين المتطرف
حزب التجمع الوطني، اليميني المتطرف، صاحب الحظوظ الأكبر في تشريعيات فرنسا، وفق استطلاعات رأي حديثة بالبلد الأوروبي، حيث يعد ملف الهجرة في قلب أولويات برنامجه الانتخابي.
ويعتبر التجمع الوطني، أن ملف الهجرة غير النظامية مصدر لكل المشاكل التي تعاني منها فرنسا، لا سيما ما يتعلق بشواغل الأمان والسيادة والحدود والهوية.
ومع تبني طرح وعود بشأن “التفضيل الوطني”، يمنح حزب التجمع الأولوية والأسبقية للفرنسيين في الاستفادة من السكن الاجتماعي وفرص العمل قبل غيرهم.
ويحمل البرنامج الانتخابي عدة نقاط ومحاور تتعلق بالهجرة أبرزها:
– وضع قانون ينص على الحق في الإعادة القسرية المنهجية للمهاجرين غير الشرعيين.
– إزالة جميع العوائق الإدارية والقانونية أمام طرد الأجانب.
– تقييد الحصول على الجنسية الفرنسية عبر تقييد قانون “حق الأرض المزدوج”.
– للحصول على المساعدات الاجتماعية تشترط الإقامة على الأراضي الفرنسية لمدة 5 سنوات.
– حصر حرية الحركة ضمن بلدان شينغن بمواطني البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
– إقامة حدود مضاعفة فرنسية وأوروبية مع مراقبة الحدود الوطنية.
– إلغاء دعم المنظمات غير الحكومية “المؤيدة للمهاجرين”، وتخصيص المساعدات لوقف القوارب التي تنقل المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا.
– مراجعة الدستور من أجل تفعيل نظام حصص لأعداد المهاجرين السنوية الواصلين إلى فرنسا، بمن فيهم عائلات المهاجرين عبر قانون لم الشمل، يصوت عليه البرلمان.
– استبدال المساعدة الطبية الممنوحة من الدولة بمساعدة طارئة.
– معالجة طلبات اللجوء في مراكز مغلقة.
ومرارا ألمح رئيس التجمع الوطني، جوردان بارديلا، المرشح لرئاسة الوزراء، إلى أنه حال فوز تجمعه اليميني بالأغلبية سيقر تشريعا يدفع نحو عمليات ترحيل لأجانب.
وقال بارديلا، في 14 يونيو الجاري، إنه في حال انتخابه رئيسا للوزراء ستكون من الأولويات قضية الهجرة وضبط حدود فرنسا، وأكد أن تلك الأولوية تتماشى مع أولويات الفرنسيين أيضا.
وأشار إلى أن فرنسا بعهده لن تكون دولة للهجرة الجماعية غير النظامية، وأنه سيقوم خلال الأسابيع الأولى من ولايته على تمرير قانون للهجرة من البرلمان، بهدف “تسهيل ترحيل المجرمين والإسلاميين الأجانب من خلال رفع القيود الإدارية الحالية، وإلغاء حق الحصول على الجنسية الفرنسية بالولادة”.
ولم يتردد بارديلا في القول: “إذا أصبحتُ رئيسا للوزراء.. خلال أيام قليلة سأكون رئيس الوزراء الذي سيعيد فرض سلطة القانون”، معتبرا الهجرة الموضوع الرئيسي الذي يهز الهوية الفرنسية.
ثانياً: كتلة معسكر إيمانويل ماكرون
ويتكون التكتل من حزب “النهضة” الحاكم و”آفاق” و”الحركة الديمقراطية”، ويتضمن برنامجه بشأن الهجرة النقاط التالية:
– الاستمرار بالإجراءات الضامنة للأمن والأكثر صرامة واستبعاد الأجانب الذين يشكلون تهديدا للنظام العام.
– تفعيل القوانين التي تم التصويت عليها على المستوى الأوروبي لتقليص الهجرة غير النظامية.
– الرد بشكل حازم بشأن تصاعد العنف وسط القاصرين، وخاصة القاصرين الأجانب غير المصحوبين، الذين يشوشون على التماسك الوطني.
– عدم احتجاز العائلات التي لديها قاصرون.
– العمل على تسوية أوضاع الأجانب العاملين في المهن الشاقة دون موافقة المشغلين.
– مكافحة تهريب واستغلال الأجانب.
– للحصول على الإقامة لـ10 سنوات يشترط التحدث بالفرنسية واحترام قيم الجمهورية.
ويؤكد حزب النهضة الحزب الحاكم في فرنسا ضرورة التفاوض على اتفاقيات استراتيجية مع البلدان الأصلية للاجئين؛ من أجل عودة المهاجرين غير الشرعيين.
ويدعو إلى مضاعفة عدد العودة الطوعية للمهاجرين غير الشرعيين إلى 200 ألف سنويا، ويقترح تخفيض التأشيرات التي تمنحها أوروبا، في حال عدم تعاون الدول الأصلية للاجئين.
وسبق أن طرح الحزب منح 100 ألف تأشيرة أولوية للمهن المطلوبة ورواد الأعمال، وتبسيط الإجراءات الإدارية لتسهيل الحصول على التأشيرات للعمالة المؤهلة في المهن التي تعاني من النقص.
وينوي معسكر الرئيس ماكرون اتباع الاستراتيجية التي سطرها سابقا والمتمثلة في استقطاب الناخبين الذين يصوتون غالبا لصالح التجمع الوطني، وذلك عبر ربط انعدام الأمن في فرنسا بمشكلة الهجرة.
وفي هذا الصدد، قال الرئيس ماكرون في المؤتمر الصحفي الذي نظمه في 12 يونيو الجاري بقصر الإليزيه: “إزاء القلق الوجداني الذي يشعر به الفرنسيون، يجب علينا العمل أكثر لفرض الأمن والصرامة وتطبيق جميع القوانين التي تمت المصادقة عليها والهادفة إلى تقليص الهجرة غير النظامية على أرض الواقع”.
ثالثاً: كتلة اليسار
وتضم الكتلة أحزاب “فرنسا الأبية” و”الاشتراكي” و”الخضر” و”الحزب الشيوعي”، ويعد برنامج اليسار الانتخابي بشأن الهجرة هو الأكثر انحيازا للحقوق، ويضم عدة نقاط أبرزها:
– مراجعة ميثاق الهجرة واللجوء الأوروبي من أجل استقبال كريم للمهاجرين.
– خلق وحدات سكنية عاجلة واستقبال المهاجرين فيها بشكل غير مشروط للنظاميين وغير النظاميين.
– إلغاء قوانين اللجوء والهجرة للأعوام 2018 و2023، وتفعيل وكالة إنقاذ في البحر والبر بدعم من وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء.
– تعزيز الدعم الاجتماعي.
– السماح لطالبي اللجوء بالعمل.
– تسهيل الحصول على التأشيرات.
– تسوية أوضاع العمال والطلاب وأهالي الأطفال المسجلين بالمدارس.
– تحديد تصريح الإقامة لمدة 10 سنوات باعتباره تصريح الإقامة المرجعي.
– استحداث صفة “لاجئ بسبب المناخ”.
– خلق طرق شرعية وآمنة للهجرة.
ـ تأمين الحصول على المساعدة الطبية من الدولة.
– منح “حق الأرض” للأطفال المولودين في فرنسا، بحصولهم على الجنسية الفرنسية بشكل تلقائي.
وبشكل محدد تطرح أحزاب “فرنسا الأبية” و”الاشتراكي” و”البيئة” و”الشيوعي” إنشاء أماكن إيواء للحالات المستعجلة من الفرنسيين والأجانب الذين يقيمون بشكل شرعي أو غير شرعي، كما ينوون في الحالات الطارئة مصادرة العقارات الخالية لإيواء المشردين فيها.
مخاوف من “الهجرة أولاً”
وتظهر استطلاعات الرأي أن اليمين المتطرف قد يشكل أول حكومة يمينية متطرفة في تاريخ البلاد لها أغلبية تسيطر على الجمعية الوطنية.
ويظهر استطلاع لمؤسسة إيبسوس، أن الكتلة الرئاسية التي تقف مع التقليص بملف الهجرة، تعاني أمام كتلتي اليمين المتطرف واليسار من تأخر كبير بتوقع حصولها على 19.5 بالمئة من نوايا التصويت، في حين أن اليمين المتطرف يتقدم بفارق ملحوظ على اليسار بحصوله على 35.5 بالمئة مقابل 29.5 بالمئة لليسار.
وكان استطلاع سابق للمؤسسة نفسها بشأن محددات التصويت في الانتخابات الأوروبية التي أحرز فيها اليمين المتطرف فوزا كبيرا، ذكر أن الهجرة تشكل الموضوع الأهم بالنسبة لـ23 بالمئة من الفرنسيين حتى قبل القدرة الشرائية التي كانت الموضوع الأهم بالنسبة لـ18 بالمئة، وكان موضوع الهجرة أحد الدوافع الثلاثة الأهم بالنسبة لـ43 بالمئة من المصوتين.
وبحسب تقديرات حديثة أوردتها فضائية “فرانس 24″ يهيمن حزب التجمّع الوطني على استطلاعات الرأي التي تسبق الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، بحصوله على نسبة 36 بالمئة من نوايا التصويت وفقاً لمعهد Ifop، وبالتالي يمكنه أن يطمح في الوصول إلى السلطة، الأمر الذي سيشكّل حدثاً تاريخياً في فرنسا.
ويتقدم هذا الحزب اليميني المتطرف على ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري بواقع 29.5 بالمئة، والمعسكر الرئاسي بواقع 20.5 بالمئة، وبالمقابل تبدو جبهة المعسكر الرئاسي الأضعف بين الكتل الثلاث المتنافسة، حتى في حال تحالفه مع الجمهوريين (يمين) المعارضين لحزب التجمّع الوطني.
ومستخدمًا استراتيجية التهويل والتخويف، حذر الرئيس إيمانويل ماكرون من أن برامج من أسماهم بـ”المتطرفين” قد تقود فرنسا إلى “حرب أهلية”.
وأضاف أن اليمين المتطرف “يشير إلى الناس بناء على ديانتهم أو أصلهم (المكان الذي ينحدرون منه)”، لافتا إلى أن ذلك يقسم المواطنين ويدفع نحو اندلاع حرب أهلية، حيث يقترح حزب فرنسا الأبية “شكلا من أشكال الطائفية.. وهذه أيضا الحرب الأهلية”.
فيما قللت مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، من طرح ماكرون قائلة: “لقد فعل ذلك بنا خلال كل الحملات الانتخابية”، كما وصف حليفها إيريك سيوتي ذلك بأنه “استراتيجية الخوف”، بينما اتهمه جان لوك ميلانشون زعيم حزب فرنسا الأبية بأنه “موجود دائما لإشعال النار”، بحسب ما أوردته فضائية “فرانس 24”.
قضية مصيرية
ومنذ سنوات تجاوزت قضايا الهجرة كونها ملفا انتخابيا وأصبحت سياسية في المقام الأول، من حيث تصارع الأحزاب والكتل الرئيسية من آن إلى آخر.
وكان أبرز تلك الصراعات التشريعية المعلنة، ما شهدته الجمعية الوطنية بفرنسا (الغرفة الأولى)، في أواخر عام 2023، عندما طرح القانون التاسع والعشرون الذي يخص الهجرة في البلاد منذ عام 1980.
وتلقى ذلك القانون الذي قدمه الحزب الحاكم هزيمة قاسية بعد تبني مقترح نواب من “أنصار حماية البيئة” من جانب النواب اليساريين والجمهوريين والتجمع الوطني اليميني المتطرف، في ديسمبر 2023 بأغلبية 270 صوتا مقابل 265 صوتًا، ما أوقف تمريره رغم أنه تم تبنيه في نوفمبر من العام ذاته في مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية).
ولم يكن مقترح المشروع كافيا لإرضاء تيار اليمين المتطرف، الذي يريد إلغاء المساعدات الطبية المقدمة من الدولة، ولا يريد تسوية أوضاع العمال الذين لا يملكون أوراقا، في حين أن اليسار يرفض القيود المفروضة على الحصول على تصاريح الإقامة من أجل الرعاية الصحية أو تشديد لم شمل الأسر، وكذلك النقاشات السنوية بشأن أعداد المهاجرين السنوية المقرر تسوية أوضاعهم.
فكان تحالف الرفض وقتها بوجه التشريع المحتمل للهجرة أقوى أمام مشروع الحكومة الذي كان يحاول إرضاء 72 بالمئة من الفرنسيين الذين يرون أن تحسين إجراءات ضبط الهجرة أمر ضروري، وفقا لاستطلاع أجرته مؤسسة “أودوكسا” مؤخرا لصالح مجلس الشيوخ، بحسب فضائية “فرانس 24”.
وبحسب إحصاء أوردته الفضائية ذاتها في عام 2015، وصل إلى فرنسا في عام 2006 حوالي 164 ألف مهاجر جديد مقابل 140 ألفا في عام 2013، أي أقل بحوالي 20 ألف شخص، بينما وصل عدد المهاجرين الذين غادروا فرنسا في 2006 إلى 26 ألف مهاجر مقابل 95 ألفا في 2013.
وكشف المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي (رسمي) أن من بين سكان فرنسا نحو 9 بالمئة من المهاجرين.
وفي مارس 2023، قدرت دراسة المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في وثيقة بعنوان “المهاجرون وأحفاد المهاجرين في فرنسا” عدد المهاجرين الذين كانوا يعيشون في فرنسا في 2021 بنحو 7 ملايين أو 10.3 بالمئة من السكان.
وبخلاف ملف الهجرة والمهاجرين، تشهد فرنسا خلافات لا تتعلق فقط بالشؤون الداخلية، بل امتد الانقسام فيها إلى قضايا خارجية أبرزها حرب غزة، إذ عاش البلد الأوروبي موجات احتجاجية مختلفة على قانون رفع سنّ التقاعد والبطالة وغلاء المعيشة والتغير المناخي.