النكبات والحروب قدر الفلسطينيين في كتابة تاريخهم
لولا حاجة النظام العربي إلى المقاومة الفلسطينية، لما شهدنا نمو الحركة الوطنية الفلسطينية في الشكل الذي شهدناها فيه، منذ أواخر ستينات القرن الماضي وحتى أوائل سبعيناته.
يبدو أن قدر الفلسطينيين كتابة تاريخهم بالنكبات وبالحروب، إذ يعيشون بين نكبة وأخرى، أو حرب وأخرى. فبينما أسّست النكبة الأولى (1948) للسردية التاريخية الفلسطينية، وللهوية الوطنية الجامعة للفلسطينيين، بعد تشريد معظمهم وتحويلهم إلى لاجئين، وإقامة دولة إسرائيل كدولة يهودية في الشرق الأوسط، فإن النكبة الثانية التي نجمت عن حرب حزيران (يونيو) 1967، والتي سُمّيت “النكسة” من قبيل التخفيف، مكّنت إسرائيل من احتلال باقي الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، إذ هيمنت على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، بعدما فرضت ذاتها دولةً رادعة في المنطقة، باحتلالها أراضي عربية، مصرية وسورية.
أما النكبة الثالثة (الحالية) التي نعيش فصولها منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فقد نجم عنها خراب غزة، وتحويلها إلى منطقة غير صالحة للعيش، مع افتقاد أكثر من مليوني فلسطيني فيها للماء والكهرباء والغذاء والوقود والدواء وأماكن الإيواء، نتيجة حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل عليهم منذ أكثر من ثمانية أشهر.
في هذا السياق التاريخي، وبين تلك النكبات، يمكن ملاحظة خمسة أحداث رئيسة مؤسّسة في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث، في الـ 76 سنة الماضية، ساهمت في تشكيل إدراكاته لذاته ومكانته وهويته، وأثّرت في رؤيته لمحيطه والعالم، ولطبيعة علاقته بهما.
الحدث الأول، وهو النكبة المتمثلة في إقامة إسرائيل (1948)، وولادة مشكلة اللاجئين. والثاني يتعلق بانطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية (1965) وتأسيس منظمة التحرير بوصفها كياناً سياسياً جامعاً لشعب فلسطين، مع تأثير ذلك على الفلسطينيين وعلى مكانتهم عربيّاً ودوليّاً، والذي عززته، أو سهّلته، الحاجة العربية إلى مقاومة فلسطينية مسلحة، بعد النكسة (1967).
والثالث هو اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى وعقد اتفاق أوسلو (1993)، وتالياً إقامة سلطة فلسطينية في الضفة والقطاع، تحولت لاحقاً إلى سلطتين متنازعتين، واحدة في الضفة تحكمها “فتح”، والثانية في غزة تحكمها “حماس”. الرابع هو نشوب الانتفاضة الثانية (2000 – 2004) وما نجم عنها من صعودٍ لحركة “حماس” بوصفها منافساً لـ”فتح”، وتالياً انقسام الكيان السياسي الفلسطيني. ويتمثل الحدث الخامس في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة منذ أكثر من ثمانية أشهر.
شكّل الحدث الأول، بتداعياته العميقة والخطيرة وامتداداته، النقطة المركزية في تعريف الفلسطينيين ذاتَهم كشعب، وهويتهم وتصوّرات الآخرين عنهم، عربيّاً ودوليّاً، كمجتمعات ودول، وحتى إزاء أنفسهم، وإزاء عدوهم (إسرائيل)، على الرغم من أنه تعريف بالسلب لأنه ينطوي على الانكفاء أو الذوبان والتبدّد، لا سيّما أن الفلسطينيين يفتقدون إقليماً جغرافياً مستقلاً وموحّداً في غياب وحدتهم المجتمعية. فالهويات ظاهرة تاريخية، تتطور وتتعزّز أو تذهب نحو الأفول والغياب أو التحول، على الرغم مما تحمله من شحنات شعورية وعاطفية. وهذا يمكن ملاحظته اليوم في التباين في أولويات الفلسطينيين، وتعبيراتهم المختلفة عن ذواتهم، بحسب أماكن وجودهم.
الحدث الثاني يتمثل في انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة (في منتصف ستينات القرن الماضي)، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي باتت الكيان السياسي المعنوي للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، منذ أواخر ستينات القرن الماضي وحتى إقامة السلطة الفلسطينية (1993). عليه، بات ذلك الإنجاز الوطني التاريخي يعرّف الفلسطيني، ويعرف العالم به، بالإيجاب، كردة فعل على الحدث الأول، مؤكّداً حضور الفلسطينيين كشعب من الغياب والتغييب، من المكان والزمان والرواية التاريخية. لكن ذلك لم يكن كافياً، في المحصلة.
إذ لم يستطع الفلسطينيون البناء عليه لأسباب ذاتية وموضوعية، ولا تجسيده في معطيات جغرافية وديموغرافية وسياسية، وهذا ما نشهده، منذ سنوات، مع أفول حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وتحولها إلى سلطة، أو سلطتين، لجزء من الشعب على جزء من الأرض في جزء من الحقوق، مع استبعاد اللاجئين أو إزاحتهم من المعادلات السياسية، ومع تهميش منظمة التحرير التي نشأت كياناً وطنياً جامعاً لكل الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، ومع نشوء أولويات، ورؤى وأشكال كفاحية مختلفة لكل تجمّع، وهذا ما يمكن ملاحظته في حرب غزة. فلكل تجمّع فلسطيني أجندته، وقد أخذت، أو ذهبت، غزة في طريق لا يستطيع فلسطينيو 1948 ولا فلسطينيو الضفة السير فيها، أو حتى التفكير فيها.
في النكبة الثانية، التي نحيي ذكراها الـ 76، مفارقتان: الأولى، أن الحركة الوطنية الفلسطينية التي انطلقت قبل عامين من تلك النكبة، من أجل محو نتائج النكبة الأولى، ما لبثت أن حصرت هدفها بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، في انزياح من رواية تأسست على النكبة الأولى (قضية اللاجئين ورفض إقامة دولة إسرائيل) إلى الرواية المتأسسة على احتلال (1967) والاعتراف بإسرائيل.
المفارقة الثانية تفيد بأن انطلاق المقاومة والكينونة الفلسطينية المسلحة مدينة بصعودها لنكبة حزيران (يونيو) 1967، إذ صعبٌ تخيّل حال الحركة الوطنية الفلسطينية والكفاح المسلح الفلسطيني من دون تلك الهزيمة التي سهّلت صعود العمل الفدائي من الأردن ولبنان وسوريا، وسمحت بتبلور الكيانية الفلسطينية المتمثلة في منظمة التحرير، أي أن ذلك حدث بفضل النظام السياسي العربي الذي أخذته الهزيمة، وأودت بشرعيته وادعاءاته، فكان السماح بالمقاومة وبظهور البعد الفلسطيني لتنفيس الاحتقان الشعبي والتخفيف من شأن الهزيمة والتغطية عليها. بمعنى آخر.
لولا حاجة النظام العربي إلى المقاومة الفلسطينية، لما شهدنا نمو الحركة الوطنية الفلسطينية في الشكل الذي شهدناها فيه، منذ أواخر ستينات القرن الماضي وحتى أوائل سبعيناته، لا سيما في الأردن ولبنان. وليس القصد من ذلك أنه من دون حرب حزيران 1967 ما كنا سنشهد حركة وطنية فلسطينية، إنما القصد أن تلك الحركة كانت ستظهر وتعبّر عن نفسها بأشكال وبمظاهر مختلفة، ربما أضعف حلقة فيها هو الكفاح المسلح، والوجود العسكري الفلسطيني في الأردن ولبنان.
بيد أنه في مقابل ذلك، أي في مقابل تسهيلها الكينونة الفلسطينية، والكفاح المسلح، فإن تلك الهزيمة أدّت إلى حصول نقلة كبيرة في السياسة العربية، بانتقالها من مستوى الصراع على وجود إسرائيل، إلى مستوى الصراع على حدود إسرائيل، ومن مواجهة المشروع الصهيوني إلى مواجهة العدوان الإسرائيلي. وبكلمة واحدة، انتقل الفكر السياسي الرسمي العربي، منذ ذلك الحين، من ملف 1948 إلى ملف 1967.
أما الحدث الثالث فقد أتى مساراً نكوصياً عن الحدث الثاني، الإيجابي نسبيّاً (انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية)، أو كقطيعة معه، وكحركة سالبة تثبت الحدث الأول الذي مضت عليه سبعة عقود ونصف، أو تضفي الشرعية عليه، بما في ذلك إقامة إسرائيل ذاتها (النكبة الأولى). والمشكلة، أيضاً، أنه أتى كمسار نكوصي عن الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993) التي عبّرت عن انتقال ثقل العمل الوطني الفلسطيني إلى الداخل. في النتيجة، أدّى ذلك الحدث الى انتقال القيادة الفلسطينية إلى الداخل، وتحويل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة (ثم سلطتين) في الضفة والقطاع، مع كل تبعات ذلك على الفلسطينيين، وعلى شكل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
في ما يتصل بالحدث الرابع، الانتفاضة الثانية (2000-2004)، فهذه تختلف عن الأولى كونها اتخذت شكل العمليات المسلحة، وتحديداً نمط العمليات التفجيرية. أدّى هذا الحدث إلى إدخال الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية في مواجهات غير محسوبة، وإلى معاودة إسرائيل احتلال مناطق السلطة، وتضعضع مكانة حركة “فتح”، وظهور حركة “حماس” منافساً على المكانة والقيادة.
نحن الآن إزاء الحدث الخامس، أو النكبة الفلسطينية الثالثة، وتحديداً لفلسطينيي غزة، التي سيكون لها أثرها في شكل الحركة الوطنية الفلسطينية، وضمنها “حماس” ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وفي طبيعة العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، وضمنها مكانة إسرائيل في المنطقة والعالم، والتي من الصعب والمبكر التكهن بتداعياتها، أو بالشكل الذي ستتموضع فيه، في المقبل من الأيام، خصوصاً مع كل هذا الدمار الذي أحاق بعمران غزة، وبيوتها وشوارعها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها ومؤسساتها الخاصة والعامة، ومع دمار بناها التحتية، وافتقاد سكانها لمصادر الرزق والموارد، مع تخبّط السلطتين في الضفة وغزة إزاء هذا الواقع.
يُستنتج من ذلك، أن النكبتين، الأولى (1948) والثالثة (2023 – 2024)، هما الأكثر والأرسخ تأثيراً في تاريخ الفلسطينيين قياساً للأحداث الأخرى، وهذا قدر تراجيدي ومهول، أثمانه باهظة، لا سيما أنه باقٍ على الأرجح في المدى المنظور، مع استمرار المعطيات الراهنة.