بعد أربع سنوات من المفاوضات الشاقة بين مجموع الدول المشكلة للاتحاد الأوروبي، صادق البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي، وبعده مجلس الاتحاد الأوروبي في نفس الأسبوع على ما يطلق عليه بميثاق الهجرة واللجوء الأوروبي. حيث كان الهدف الأساسي الذي رُسم له هو التقريب بين مواقف هذه الدول، خصوصًا بعد ما عُرِف بأزمة اللاجئين التي تعود لسنة 2015.
وهي مواقف منها ما يقترب أحيانًا من المقاربة الحقوقية والإنسانية لموضوع الهجرة واللجوء، ومنها ما يتبنى المقاربة الأمنية، التي غالبًا ما تكون ضحيتها الأقليات بمختلف ألوانها، خصوصًا في صفوف المسلمين بعدما ألِف اليمين واليمين المتطرف توظيف موضوع الهجرة، لتأجيج الانقسام المجتمعي، وتصعيب الاندماج في سياق عالمي محفز على الرفع من منسوب الإسلاموفوبيا، ولا يكشف بالشكل الكافي عن المفارقات التاريخية والعلمية لفرضية معاداة السامية.
هذا الميثاق الذي يقع في ألفَي صفحة ويضم عشرة نُظُم قانونية مُوَجِّهة للتشريعات الوطنية لدول الاتحاد، طغت عليه في المجمل الرؤية الأمنية على حساب ما هو حقوقي وإنساني.
الأمر الذي أثار حفيظة المنظمات الحقوقية والمنظمات المدنية غير الحكومية المنتصرة لحقوق المهاجرين، وحقوق الأقليات الدينية والثقافية، ودفع أحزاب اليسار والأحزاب المتبنِّية لما يسمى في الفكر السياسي الحديث بالديمقراطية الاجتماعية، إلى جانب أحزاب يمين الوسط، إلى الدعوة لسحب الميثاق من مجلس الاتحاد الأوروبي والبرلمان اللذين يتقاسمان الاختصاص التشريعي بمؤسسات الاتحاد الأوروبي، حسب اتفاقية لشبونة التي دخلت حيز التنفيذ سنة 2009.
مضمون ميثاق الهجرة واللجوء
منذ سنة 2020، ودول الاتحاد الأوروبي تعمل جاهدة للوصول إلى معالجة شاملة تستدمج الأبعاد الحقوقية والإنسانية والسياسية لظاهرة الهجرة وطلب اللجوء، لكن تعدد التصورات وتضارب المصالح، خصوصًا بين دول الجنوب، إسبانيا، وإيطاليا، واليونان، ودول الشمال، مثل فرنسا، وألمانيا، والدانمارك، حالت دون ذلك.
اقرأ أيضا.. هل تحاول ألمانيا توريط دولة عربية في الصراع الأوكراني؟
لكن جديد ميثاق هذه السنة هو إلزام مجموع دول الاتحاد الأوروبي بالتضامن والتوزيع العادل لأعداد المهاجرين، خصوصًا وقت الأزمات. وذلك بناءً على قاعدة بيانات توفرها منصة إلكترونية أُطلق عليها اسم “أوروداك”، تتولى عملية مقارنة البصمات، إلى جانب إحصاء وتسجيل المهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء. دون إغفال التأكد من جدية الطلب، ودرجة المخاطر المحدقة بالبلد الأصلي، والنظر فيما إذا كان بالفعل بلدًا آمنًا أو غير آمن، يستدعي طلب الحماية الدولية.
مجموع هذه الإجراءات يتم القيام بها عند حدود الاتحاد الأوروبي، أي عند حدود البلد الأول الذي يسعى المهاجر أو طالب اللجوء للتوجه إليه قبل تحديد وجهته النهائية من طرف سلطات الحدود، وبتنسيق مع باقي بلدان الاتحاد من خلال عملية التبادل الآلي للمعطيات والبيانات البيومترية.
الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء ألزم دول الاتحاد الأوروبي بالتضامن في توزيع عدد المهاجرين وطالبي الحماية الدولية، وذلك وفق معايير دقيقة لتحديد الدولة المستقبلة في الحالة التي يكون للمهاجر أحد أفراد عائلته بأحد بلدان الاتحاد الأوروبي؛ أو إذا تم وضع طلب الهجرة واللجوء في بلد غير البلد الأول الذي ولجه للمرة الأولى.
حضر على مستوى الوثيقة الأوروبية، مفهوم الأزمة بشكل يوحي بأن سؤال الهجرة يُوَظَّف بشكل متعسف ضمن الحسابات السياسية للدول، وهو ما حصل سنة 2021 في بولونيا وليتوانيا، بعد تشجيع بيلاروسيا دخول آلاف المهاجرين الآسيويين والأفارقة إلى البلدين.
كما تم إقحام مفهوم آخر دون تدقيقه وشرح محتواه، وهو مفهوم القوة القاهرة التي تدفع المهاجر وطالب اللجوء إلى البحث عن الحماية الدولية. هذا إلى جانب استعمال عبارة “موجات الهجرة” الموجبة لتفعيل المسطرة الاستثنائية لعودة المهاجرين وطالبي اللجوء إلى بلدانهم، أو السماح لهم بدخول دول الاتحاد الأوروبي.
حقيقة هي مفاهيم وعبارات تؤكد أن الأوروبي مازال رهين التصورات السياسية والأمنية لسؤال الهجرة، بعيدًا عن الرؤية الموضوعية التي تبحث في الأسباب الحقيقية والعميقة للموضوع.
وهي رؤية، لا شكَّ تخدمه، بحكم أنه يستفيد من اليد العاملة النشيطة، ومختلف الكوادر الطالبة للهجرة؛ لإنعاش الاقتصاد والمحافظة على معدلات النمو من جهة، كما يعمل على تجريم ظاهرة الهجرة غير النظامية، وشيطنتها؛ بغية الضغط على الدول المصدرة للهجرة لاستغلال مقدراتها ومواردها البشرية والطبيعية من جهة ثانية.
تحديات وفرص
يرى العديد من المراقبين أن الميثاق ولد ميتًا؛ لأنه يعول على عقد اتفاقيات مع دول ثالثة خارج الاتحاد الأوروبي، من أجل استقبال المهاجرين وطالبي الحماية الدولية في مراكز إيواء مخصصة لمعالجة طلباتهم فوق تراب غير تراب دول الاتحاد.
وهو ما من شأنه أن يرفع الحرج عنها، ويُبعدها عن انتقادات المنظمات الحقوقية المدافعة عن المهاجرين. هو خيار تدافع عنه مجموعة من دول الاتحاد، وعلى رأسها إيطاليا التي عقدت اتفاقية في هذا الشأن مع ألبانيا، وتريد دول أخرى السير على منوالها، رغم فشل هذا النموذج في تجربة سابقة بين المملكة المتحدة، ورواندا.
والحق أن هذا الخيار المدعوم من طرف رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أصبح تيارًا حقيقيًا يقوده اليمين، واليمين المتطرف الذي يشنّ حملة مسعورة على المسلمين، خصوصًا بعد تفوّقه عن التيارات اليسارية، وعقد تحالفات مع جزء من تيارات يمين الوسط في الانتخابات الأخيرة التي عرفها البرلمان الأوروبي بين 4 و9 من شهر يونيو/حزيران للسنة الجارية، وهو ما مكّنه من اختراق مراكز القرار الأولى بمجموعة من أجهزة الاتحاد الأوروبي.
في هذا السياق، يمكن التأكيد أن أوروبا فوّتت على نفسها فرصة تأسيس ميثاق للهجرة واللجوء، ينتصر لحقوق الإنسان وللقانون الدولي، وللقانون الدولي الإنساني.
وإنصافًا لتيار مقابل داخل الاتحاد الأوروبي، هناك دول أخرى تطالب بأنسنة موضوع الهجرة، ومعالجته بعيدًا عن الحسابات السياسية، كإسبانيا التي ترفض ما بات يعرف في دول الاتحاد الأوروبي بالنموذج الإيطالي، أي إعداد مراكز إيواء لاستقبال المهاجرين غير النظاميين خارج تراب الاتحاد الأوروبي، رغم حالة الاستقطاب الحادة التي تعرفها الطبقة السياسية الإسبانية هذه الأيام ارتباطًا بالموضوع، أو ألمانيا التي يُشهد لها باستقبال أعداد كبيرة من المهاجرين وطالبي اللجوء خلال السنوات الأخيرة.
لا ننسى التذكير، بأن صعود تيارات اليمين المتطرف إلى الصفوف الأولى لمراكز القرار الأوروبي، من خلال عملية انتخاب ديمقراطية، يشكل خطرًا على قيم الديمقراطية الليبرالية المنتصرة للحقوق الفردية وحقوق الأقليات الدينية والعرقية.
كما أن عودة ما كان يعرف تاريخيًا بالديمقراطية الشعبوية، أو الديمقراطية الجماهيرية في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، كانت سببًا في إشعال الحربين العالميتين الأولى والثانية. ناهيك عن أن الديمقراطية الشعبية شكلت عاملًا رئيسيًا في بروز الكثير من الأنظمة الشمولية، كالفاشية الإيطالية، والنازية الألمانية المسؤولتَين عن إشعال الحرب العالمية الثانية. ألم يصل الحزب النازي إلى السلطة سنة 1933 عبر انتخابات شعبية ديمقراطية؟!
وإذا كان السقف الزمني لبلورة النصوص القانونية والتنظيمية، مع التنزيل الفعلي لمضامين الميثاق هو 11 يونيو/ حزيران من سنة 2026، فهل ستتمكن القوى المناهضة لليمين المتطرف خلال هذه الفترة من الحد من قوته وتأثيراته في عملية صياغة هذه النصوص؟ّ
هذا هو التحدي المطروح الآن على هذه القوى، خصوصًا بعد أن وجهت 14 دولة تنتمي للاتحاد الأوروبي، وهي: الدانمارك، وبلغاريا، وجمهورية التشيك، وإستونيا، واليونان، وإيطاليا، وقبرص، وليتوانيا، ومالطا، وهولندا، وبولونيا، ورومانيا، وفنلندا، والنمسا، رسالة بعد مصادقة مجلس الاتحاد على الميثاق، تعبر من خلالها للمفوضية الأوروبية عن رغبتها في تشديد مراقبة حدودها، وتكثيف الجهود، دعمًا لمؤسسات الاتحاد في مواجهة الهجرة غير النظامية.