المصريون العاملون بالخارج هم أحد الموارد الرئيسية للعملة الصعبة للدولة المصرية، لطالما كانوا مدخلًا رئيسيًّا من مصادر توفير النقد الأجنبى المطلوب لتمويل احتياجات الدولة بضخ مليارات الدولارات فى البنوك المصرية، عبر تحويلاتهم الرسمية، بغرض الادخار فى بلادهم وتغطية نفقات أسرهم أو حتى لتوفير الاستثمارات لمشاريعهم والمشاركة فى استثمارات مختلفة… كانت التحويلات السنوية تتراوح ما بين 30 و 32 مليار دولار سنويًّا… كان المصرى فى الخارج لا يثق إلا فى بنوك واقتصاد بلاده.
ويتحوط لمستقبله بوضع كل ما يملك فى القنوات الشرعية والاستثمارية المختلفة… ولِمَ لا؟ وكل أفراد أسرته يقطنون داخل البلاد، وهو فى قرارة نفسه يدرك أنها مرحلة غُربة تعقبها عودة نهائية ليستقر فى دفء وطنه ومع أهله… لم تكن مصر أبدًا من الدول الطاردة لأبنائها، بل على العكس تمامًا هناك رباط قوى يربط بينهم… إلا أن تغييرًا جذريًّا أحدث شرخًا كبيرًا فى جدار الثقة، الفترة الماضية، وجعل الأبناء العاملين فى الخارج يفضلون إبقاء أموالهم خارج القنوات الشرعية للدولة… تراجع حاد فى ثقتهم فى مصداقية وقدرة اقتصاد بلادهم على الاستمرار… وشك رافض لأى تعاون أو مشاركة، الأمر الذى انعكس بوضوح على أرقام التحويلات داخل الجهاز المصرفى التى انخفضت بنحو ١٠ مليارات دولار، وفقًا لأحدث الأرقام..
وآثر العاملون بالخارج أن يتعاملوا مع القنوات غير الرسمية من سماسرة خارجيين وداخليين، مقابل الحصول على مكاسب فى سعر التحويل… ولا أحد يستطيع لومهم مع اتساع الفجوة بين السعر الرسمى المعلن وسعر التداول الحقيقى فى الأسواق إلى ١٠٠%، وفى ظل موجات تشكيك مدبرة وموجهة بعناية فى قدرة الدولة على احتواء الأزمة… ودعّمَ هذا التوجه حالة الصمت الرهيبة التى غلفت تعامل الدولة مع الأزمة فى الفترة السابقة، الأمر الذى أسفر عن تفاقم عزوف المصريين عن التعامل عبر القنوات الرسمية فيما يخص ملف التحويلات وانعكاس هذا الأمر بالإيجاب على السوق السوداء، ليتحول أبناء مصر من مصدر دعم للاقتصاد إلى سبب رئيسى من أسباب العجز فى توفير العملة الأجنبية واشتعال السعر بالسوق الموازية..
ومع التغير المفاجئ للأوضاع الاقتصادية للدولة المصرية من عدم قدرة على توفير الدولار ووجود سعرين للصرف داخل السوق، إلى توحيد تام لسعر الصرف والقضاء على السوق الموازية بشكل شبه كامل والسيطرة على الأسواق مرة أخرى… فى ظل صفقات استثمارية واعدة مثل رأس الحكمة وانتهاء المفاوضات مع صندوق النقد الدولى بنجاح، والحصول على القرض ودعم الاتحاد الأوروبى الأوضاع مع توجه بمساندة مصر وتدعيم جهود علاج ملف الهجرة واللاجئين، وغيرهما من المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، ليصل إجمالى التدفقات المتوقعة لمصر إلى ٦٠ مليار دولار.. بالتأكيد أثرت كل هذه التحركات الإيجابية والمؤشرات الداعمة لعودة الاستقرار الاقتصادى والنقدى، فى توجهات المصريين بالخارج، لتنعكس هذه المتغيرات على تحرك إيجابى مرة أخرى فى أرقام التحويلات بالمسارات الرسمية.. ولو لم تعُدْ إلى مستوى الأرقام السابقة كون الأمر ليس سهلًا، ولكن بدأت الثقة تعود من جديد، والتحويلات تجد مساراتها الطبيعة مرة أخرى.. ويُقدر عدد المصريين بالخارج بنحو 14 مليون شخص، يعمل معظمهم فى دول الخليج العربى، إذ تأتى المملكة العربية السعودية فى صدارة وجهات العاملين المصريين، ويعمل بها نحو 2.5 مليون مواطن، تليها دولتا الإمارات العربية المتحدة والكويت، ويعمل بكل منهما نحو 600 ألف مصرى تقريبًا. والمتابع لهذا الملف خلال السنوات الماضية، يجد مدى الاهتمام الإعلامى به فى حالات العسر والأزمات باعتبارهم «مصدرًا للدخل من العملة الأجنبية فقط»، ونسيانه كثيرًا من الوقت فى حالات الاستقرار الاقتصادى، وهو ما يعطل الكثير من محركات العمل ويُضعف الثقة بين أعداد كبيرة من المصريين بالخارج تجاه الدولة وسياساتها الاقتصادية والمجتمعية.
الحكومة المصرية أطلقت خلال الفترة الأخيرة مبادرات عدة لزيادة إسهام جاليات المصريين بالخارج فى سد الفجوة الدولارية، بينها مبادرة تتيح الفرصة للمصريين العاملين فى الخارج باستيراد سيارات معفاة بالكامل من الجمارك والضرائب، كما أتاحت فرصة تسوية الموقف من التجنيد للمصريين بالخارج، إضافة إلى إطلاق وثائق تأمين ومعاش بالدولار. كما أطلقت الحكومة مبادرة لتصدير العقار بالدولار والتى تستهدف بالأساس المصريين المقيمين بالخارج، بما يتيح لهم فرصة شراء الوحدات السكنية بطرق مختلفة وغير تقليدية.
وتستعد الحكومة أيضًا هذا العام لإطلاق شركة استثمارية جديدة للمصريين بالخارج، برأسمال يبلغ 100 مليون دولار وقد يزيد مستقبلاً إلى مليار دولار، فضلاً عن طرحها فى البورصات المحلية والدولية، وفقاً لتصريحات رسمية. هذه الإجراءات بحاجة لعدد من العناصر أراها ضرورية لتعزيز العلاقة مع المصريين فى الخارج، وأبنائهم من الأجيال الجديدة الذين ولدوا فى المهجر، وكسب ثقة معظم هؤلاء العاملين على اختلاف فئاتهم وأوضاعهم الاجتماعية بصورة صحيحة، خاصة فى ظل منافسات إقليمية عنيفة على كسب ثقة كل من لديه مدخرات، من ذلك:
– ضرورة حث المصريين فى الخارج على استثمار مدخراتهم فى مصر وليس فقط تحويلها بآليات استثمارية واضحة على مستوى القوانين والحوافز، وقد بذلت الحكومة جهودًا فى هذا الملف، إلا أنها لا تمثل إلا جزءًا بسيطًا من الهدف المنشود، إذ نحتاج فى هذا الإطار لطرح مؤسسات استثمارية ذات أصول كبيرة تقوم على إدارتها كيانات عالمية تتمتع بسمعة قوية، تعطى ثقة لكل المصريين فى الخارج، سواء العاملون فى دول الخليج، أو حتى المهاجرين فى الولايات المتحدة وأوروبا، بما يشجعهم على ضخ استثمارات فى تلك الشركات.
– بناء حوار مجتمعى أكثر شمولية كما هى العلاقة بين وزارة الهجرة والعاملين فى الخارج، بحيث تتخطى ذلك بأن تعمل جميع المؤسسات والوزارات المعنية مع فئاتهم من المصريين فى الخارج، وتبادل الخبرات فى المجالات التنموية المتصلة بأهداف الدولة وتجربتها الاقتصادية، كتعزيز دور وزارة الصحة والسكان مع الأطباء فى الخارج، ووزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بالكثير من التقنيين والعاملين فى هذا المجال بالخارج، ووزارة الصناعة والعديد من المستثمرين العاملين فى الخارج، وغيرها من الجهات والوزرات وذلك وفق آليات تعتمد على طرح برامج ومبادرات استثنائية.
-التعريف بالفرص للمصريين بالخارج، فرغم تعريف العديد من المؤتمرات التى انعقدت خلال الفترة الماضية بالفرص، أو شركات ومشروعات وأنواع من تسويق المشروعات العقارية، فإننا فى حاجة ماسة لصيغ تفتح الباب لمساهمات من المصريين بالخارج بمشروعات صناعية أو شركات عبر طرق تضمن لهم عوائد مستدامة، مع ضرورة تيسير الإجراءات الإدارية والقانونية للمصريين فى الخارج والراغبين فى الاستثمار فى مصر.
– تغيير السياسة الإعلامية فى التعامل مع هذا الملف، عبر ممارسات تستند إلى مقومات القوة التى يمتلكها، وما يمثله المصريون بالخارج من أهمية قصوى لهوية الوطن ومستقبلة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وليس لخزائنه وفقط، مثلما جرى مؤخرًا فى تصريحات بعضهم فى الحوار الوطنى حول فرض تحويل نصف دخلهم، فرغم أنه تصريح فردى، فإن العديد من البرامج المصرية أفسحت المجال للنقاش فى هذه الفكرة المُرعبة قبل اصطياد الإعلام المعادى فى المياه العكرة، وهو ما يزعزع الثقة فى عصر تلعب فيه الشائعات والتصريحات غير المحسوبة دورًا رئيسيًّا فى اضطراب الوعى الجمعى وجعله خضمًا للدولة وليس مناصرًا لها.
-العمل على تسهيل الهجرة وتبسيط إجراءاتها والحصول على تأشيرات العمل فى الدول المستهدفة لزيادة أعداد المصريين العاملين هناك، وذلك من خلال إعداد وزارة العمل بالتعاون مع وزارة الهجرة، لقاعدة بيانات رسمية من الشباب الراغب للعمل بالخارج، وتوفير مزيد من فرص العمل اللائقة، وتحديد المهن المطلوبة فى سوق العمل الخارجى، وتجهيز العمالة المؤهلة والمدربة للعمل على تلك المهن من خلال قاعدة بيانات رسمية، سواء للعمل الموسمى أو الدائم بالخارج، وهو ما يضمن توفير فرص عمل للشباب المصرى من ناحية وجذب عملة صعبة للدولة من ناحية أخرى.
-إطلاق برامج الهجرة المهنية والخاصة بتوجيه وتأهيل العمال المصريين للهجرة والعمل فى القطاعات ذات الحاجة إلى العمالة المهاجرة، وهو ما يتطلب تعاون وزارات «التعليم العالى والهجرة والعمل»، إذ تعمل الأخيرتان على تحديد القطاعات ذات الحاجة إلى العمالة فى الدول الخارجية وتوجيه وزارة العمل بالتعاون مع المؤسسات الأكاديمية والفنية فى مصر على توفير وتجهيز كوادر شابة مصرية للعمل فى هذه القطاعات.
-التعاون الثنائى والدولى، وذلك من خلال التعاون مع الدول الأخرى لتيسير انتقال العمالة بين البلدين وتبادل الخبرات والمعلومات المتعلقة بالهجرة والعمل، إضافة إلى توفير الدعم للمغتربين وتقديم المساعدة للمصريين فى الخارج من خلال إنشاء مكاتب ومراكز لخدمة المصريين فى الدول المختلفة.
-على البنوك المصرية تقديم حوافز للمصريين العاملين فى الخارج عبر عدد من الآليات، تتمثل فى ضرورة توفير خدمات مصرفية متخصصة مثل إطلاق حسابات مصرفية خاصة تلبى احتياجاتهم وحسابات دولارية بعوائد، وحسابات التحويل الدولى بأسعار تنافسية، وإجراء التحويلات المالية بعمولات منخفضة وإجراءات بسيطة لتسهيل عمليات التحويل بين الخارج ومصر، مع إطلاق برامج مكافآت وتحفيزية عند استخدام بطاقات الائتمان أو الخدمات المصرفية الأخرى، وتوفير خدمات استشارية مالية لمساعدتهم فى التخطيط المالى والاستثمارات الناجحة.
هذه الحوافز وغيرها الكثير، يجب أن تكون منهجًا للتعامل مع هذا الملف فى المستقبل حتى لا نضيع سنوات من الفرص الضائعة، وحتى نضمن استدامة مرتكز رئيسى للاقتصاد المصرى، أوقات اليسر قبل العسر.