لأن الصراع مع الكيان الصهيوني سيستمر حتى بعد حرب الإبادة والتطهير العرقي الحالية والتي بالرغم مما سببته من معاناة فلن تنهي القضية الفلسطينية، فهذه الأخيرة ليست غزة فقط والمقاومة ليست حماس فقط، لذلك يجب الاهتمام بالمواطن الفلسطيني وتحصينه وتصويب ثقافته ونمط سلوكه، والطبقة السياسية وخصوصا الحزبية واهمة إن اعتقدت أنها ستتسوس الشعب كما فعلت في السابق، هذا إن استمرت في السلطة في غزة والضفة بعد الحرب.
الفلسطينيون ما بعد الحرب لن يكونوا ما قبلها، وتسعة أشهر من الحرب التي ما زالت نهايتها غير معروفة من حيث التوقيت أو النتائج، لم تقتل الآلاف وتدمر البيوت والبنية التحتية فقط، بل دمرت جوانية المواطنين ودفعتهم لإعادة النظر في ثقافتهم السياسية والدينية والاجتماعية.
وعليه فكل حديث عن اليوم التالي للحرب على غزة وهي حرب على الضفة والقدس وكل القضية الوطنية، سيكون حديثا ناقصا إن اقتصر على شكل نظام الحكم ومشاريع إعمار البنية التحتية، والإعمار الحقيقي يجب أن ينصب على الإنسان وإعادة بناء وصقل الشخصية الوطنية وعلى المنظومة القيمية التي انهارت وتشوهت بما يعزز الوجود الوطني والممتد منذ أكثر من أربعة ألاف سنة.
سيكون الفلسطينيون الجدد أينما كانوا أمام واقع جديد يتطلب التفكير والتوقف عند الأمور التالية:
1- أن تؤمن بالله وتلتزم وتحترم العقيدة الإسلامية من قرآن وسنة لا يتطلب أن تكون منتمياً لأي حزب أو جماعة إسلامية أو تخضع لأمير جماعة أو لأقوال ومأثورات ما يسمون (السلف الصالح) أو الشيوخ والفقهاء دون تدقيق وتمحيص، فالخلف الصالح اليوم قد يكون أكثر أهمية وأدرى بمشاكلنا من السلف الصالح ولنأخذ عبرة مما قاله الرسول الكريم في واقعة تلقيح النخيل: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
وأن تكون مسلما لا يتطلب التعصب لمذهب معين شيعي أو سني، فهذه المذاهب ليست من صلب وأساسيات الإسلام بل ظهرت لاحقا مع الفتنة الكبري وصراع المسلمين على السلطة. معارضتك لهذه الجماعات والسلوكيات لا يعني خروجك أو إخراجك من ملة الإسلام أو أنك مجدفا.
2- وأن تكون مع المقاومة تأييداً ومشاركة وضد الاحتلال لا يعني أو يتطلب بالضرورة أن تكون منتمياً لحزب أو فصيل من المتواجدة اليوم أو تصدق وتؤيد كل ما يقولونه حول ممارستهم للمقاومة، وانتقادك بعض ممارساتهم أو مرجعياتهم لا يعني أنك ضد المقاومة وخائناً للوطن فالساحة الفلسطينية باتت مفتوحة أمام أطراف متعددة تركب موجة المقاومة لتحقيق أهداف تتعارض مع المصلحة الوطنية ومقاومة الاحتلال ستستمر بهذه الأحزاب أو بدونها.
كما أن المقاومة ليست صواريخ وأنفاق وسلاح فقط وليست في غزة فقط بل تخص كل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات حسب ظروف كل منطقة والمقاومة الثقافية والإعلامية والدبلوماسية وتعزيز الرواية الفلسطينية لا تقل أهمية عن المقاومة بالسلاح في بعض الحالات.
3- كل ما سبق لا يعني أن ينساق الفلسطينيون الجدد وراء منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة بوضعهما القائم ويتحولوا لعبيد وتوابع لأي مسؤول أو قائد سلطوي ولا أن تقبلوا بالمبدأ الذي عفا عنه الزمن (نفذ ثم ناقش) ـ واحترام القيادة الشرعية يكون بمقدار احترامها لشعبها و انبثاقها من الشعب وقدرتها على حماية مصالحه وحقوقه الوطنية، وأن تعارض وتنتقد بعض سياسات ومواقف قيادة منظمة التحرير وحركة فتح لا يعني أنك مع الخصم السياسي.
يجب الإقرار بأن واقع وأداء منظمة التحرير والسلطة وحركة فتح خلال حرب غزة بل وسنوات ما قبلها لا يمكن المراهنة عليه لإخراج القضية من مأزقها ومن الطريق المسدود الذي وصلت اليه، ومجرد القول بأنهم من خلال التزامهم باتفاقية أوسلو ونهج السلام جنبوا الشعب الفلسطيني وخصوصا في الضفة المصير الذي تتعرض له غزة من حرب إبادة وقتل ودمار وتطهير عرقي لا يعني أنهم كانوا على الطريق الصحيح حيث في المقابل لم يستطيعوا حماية الضفة والقدس من الاستيطان والتهويد ولا منع حدوث الانقسام وديمومته لسبعة عشر عاما، ولا الحفاظ على منظمة التحرير كإطار جامع للكل الفلسطيني حيث تم إهمال المنظمة من طرف قيادة المنظمة نفسها قبل أن يهملها معارضوها والعالم الخارجي. .
4- بالرغم مما أصاب النظام السياسي الفلسطيني والمجتمع من تدهور فلا يمكن المراهنة على أي طرف خارجي ليحرر فلسطين أو حتى يدعم نضال الشعب الفلسطيني، فالحالة العربية والإسلامية الراهنة ساقطة ومتماهية وخاضعة للغرب وواشنطن وكثير من الأنظمة مطبعة مع العدو، والمراهنة اليوم على المنقذ الخارجي سواء كان محور المقاومة أو غيره لا يقل عبثا وسرابا من المراهنة على ما كانت تسمى جبهة الصمود والتصدي ورافعين شعارات القومية والوحدة العربية.
٥- لقد ثبت أن أغلب المؤسسات التي تندرج تحت مسمى المجتمع المدني و NGOS من جمعيات إنسانية واغاثية وحقوق المرأة والطفل ومراكز الأبحاث والدراسات السياسية والقانونية وفي مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان الخ لم تؤثر ايجابا على المجتمع وكانت أقرب لدكاكين ارتزاق لخدمة أجندة الجهات الممولة ولم يستفيد منها إلا شريحة صغيرة فاسدة من مدراء هذه المؤسسات والقائمين عليها، وعليه يجب ضبط هذه المؤسسات لتكون بالفعل مجتمعا مدنيا وطنيا حقيقيا يراقب ويحاسب السلطة بما يخدم المصلحة الوطنية وليس أجندة الجهات الممولة.
٦- مع تقديرنا لمساعي قيام دولة في الضفة وغزة عاصمتها القدس الشرقية فإن الظروف الحالية لن تسمح بقيام هذه الدولة قريبا، مع أهمية التمسك به والمراكمة عليه لأنه يعتبر خطوة دولية في الاتجاه الصحيح. ولكن عدم قيام هذه الدولة في المدى القريب يتطلب تفعيل مؤسسات منظمة التحرير وإعادة بنائها لتشمل الكل الفلسطيني، ليس الأحزاب فقط بل قطاعات واسعة من الشعب تم تغييبها واهمالها من المنظمة والاحزاب، أيضا بناء سلطة وطنية جديدة منبثقة عن المنظمة المتجددة.
7- لأن العدو الذي يسعى لإضعاف السلطة في الضفة تمهيدا لتصفية الوجود الوطني هناك لن يسمح لأن تمد السلطة نفوذها لغزة أو تحكم غزة إلا إذا كانت عودتها لغزة مقابل إنهاء وجودها في الضفة، وفي حالة إفشال مخطط التهجير وانسحاب جيش الاحتلال من غزة، يمكن التفكير وطنيا بسلطة محلية في غزة منزوعة السلاح ترتبط فيدراليا مع السلطة الوطنية في الضفة وتكون منظمة التحرير الجديدة المرجعية المشتركة للجميع، وهي فكرة سبق أن كتبنا عنها قبل الحرب.
لا يعني كل ما سبق أن ينسلخ الفلسطيني الجديد عن تاريخه الوطني أو دون إنتماء ومرجعيات وثوابت، ولكن يجب أن يكون الانتماء للوطن يسمو على غيره، وأن تكون المرجعيات محل توافق وطني والثوابت ثوابت بالفعل وألا يعيد تجربة المجرب ويتم الضحك عليه و تدجينه بالشعارات والكوبونات وبرواتب السلطتين.
ولأنني أثق بقدرة شعبنا على الصمود وإفشال مخطط الإبادة وتصفية القضية بالرغم من كل الخسائر التي مني بها، فعلى الفلسطيني الجديد أن يُحَكم عقله وألا يكون(بتوع) لهذا القائد الإمعة أو ذاك، فكثير من مصائبنا ترجع، بالإضافة الى الاحتلال العدو الأول والرئيس، لقيادات فاشلة وفاسدة أدلجت الإسلام والوطنية والمقاومة لخدمة مصالحها أو مصالح أجندة خارجية، حتى حرب الإبادة والتطهير العرقي لم تزحزحهم عن مواقفهم وكراسيهم لأنهم لا يستمدون شرعيتهم من الشعب.