مع كل انتخابات رئاسية أميركية، يخرج بعض الأفارقة للموازنة والمفاضلة بين المرشح الجمهوري ونظيره الديمقراطي، ومناقشة أيهما سيكون أفضل في سياساته تجاه دولهم.. أهناك فرق جوهري، أم إننا مخدوعون بظواهر الأمور؟
لم يُخْفِ ترامب رغبته في حث الدول على اختيار الاستثمارات الأميركية بدلًا من التي تقدمها الصين
وعود براقة
كانت القارة الأفريقية هي أولى الجهات الخارجية التي خاطبها جو بايدن، بعد انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة. كان ذلك في فبراير/ شباط من العام 2021. جرى ذلك خلال القمة الرابعة والثلاثين للاتحاد الأفريقي؛ حيث توجه الرئيس الأميركي، والذي كان قد تسلم مهامه قبيل أيام معدودة من القمة، بخطاب عبر مقطع مصور، وذلك بسبب القيود الصحية التي فرضتها جائحة كورونا. وشدد بايدن خلال خطابه على أن الولايات المتحدة ساعية لإعادة بناء العلاقات، والانخراط والتعاون مع المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الاتحاد الأفريقي.
كان الخطاب بمثابة صفحة جديدة، يطوي بها رئيس ديمقراطي أربعة أعوام قضاها سلفه دونالد ترامب، وفيها وصف دولها بـ”القذرة”، في مطلع العام 2018، خلال اجتماع في البيت الأبيض مع عدد من المشرعين حول ملف الهجرة.
كانت سياسة ترامب تجاه أفريقيا واضحة وصريحة: “سنقدم الدعم الأمني للدول التي قد يمثل انهيارها خطرًا على أمننا القومي”، وأن إدارته ستعيد النظر أو تنهي مشاركتها أو دعمها لأي بعثة حفظ سلام أممية لا تحقق أهدافها أو تقود لسلام مستدام.
اقرأ أيضا.. الأيديولوجيا الكاليفورنية والاستعمار الرقمي الجديد للقارة الإفريقية
ولم يُخْفِ ترامب رغبته في حثّ الدول على اختيار الاستثمارات الأميركية بدلًا من التي تقدمها الصين. وقد كانت لغة مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون أكثر جلافة؛ حيث قال: إن العون الإنساني غير الفعال، والذي لا يُحدث فرقًا، ستوقفه الولايات المتحدة تمامًا. وأضاف: “نحن كرماء، لكن يجب أن تُستخدم أموالنا بشكل صحيح”.
على النقيض من ترامب، الذي كانت سياسته تجاه أفريقيا معنية بشكل أساسي بالمشكلة الأمنية، كانت لغة بايدن أكثر لطفًا، وتدعو لبناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل. وأفرد بايدن مساحة في خطابه لدعم وتعزيز المؤسسات الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات في مختلف أنحاء القارة.
الولايات المتحدة خلال القمة الأفريقية – الأميركية، التي أقيمت في أواسط ديسمبر/ كانون الأول 2022، لم تقم بتوجيه الدعوة لكل الدول الأفريقية.. بالإضافة لإريتريا التي لا صلات دبلوماسية بينها وبين الولايات المتحدة
وقد أكدت إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء، والصادرة في أغسطس/ آب 2022، ما جاء في خطاب الرئيس جو بايدن للاتحاد الأفريقي قبل عام ونصف.. قامت الإستراتيجية على أربع ركائز رئيسية: تشجيع الشفافية والمجتمعات المفتوحة، الإيفاء بالاستحقاقات الديمقراطية والأمنية، تعزيز الفرص الاقتصادية والتعافي من الوباء، دعم الجهود المعنية بحفظ البيئة.
وقد توسطت الولايات المتحدة في عدد من النزاعات في القارة الأفريقية؛ كانت الوساطة التي قادها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا في أغسطس/ آب 2022، هي التي قادت لبدء المحادثات المرتبطة بالنزاع الدائر في شرقي الكونغو.
وبعد ذلك بثلاثة أشهر شاركت الولايات المتحدة كمراقب في اتفاقية بريتوريا بجنوب أفريقيا بين الحكومة الإثيوبية، وجبهة تحرير تيغراي، والتي أوقفت العداء بين الطرفين منذ اندلاع الحرب بينهما في 2020.
سيرًا على خطى الإستراتيجية، والتي كانت واضحة في فرض عقوبات على أي تغيير دستوري للحكم، والانقلابات بشكل أكثر تحديدًا، والانتهاكات على حقوق الإنسان، فإن الولايات المتحدة خلال القمة الأفريقية – الأميركية، التي أقيمت في أواسط ديسمبر/ كانون الأول 2022، لم تقم بتوجيه الدعوة لكل الدول الأفريقية.. بالإضافة لإريتريا التي لا صلات دبلوماسية بينها وبين الولايات المتحدة، لم توجَّه الدعوة لأي من رؤساء: السودان، غينيا، بوركينا فاسو، مالي. كان ذلك بسبب وقوع انقلابات عسكرية في تلك البلدان.
وفور وقوع انقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني في النيجر في أواخر يوليو/ تموز 2023، جمّدت الولايات المتحدة برامج المساعدات، معطلة ما قيمته مئة مليون دولار. في العام الماضي، وبالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، قامت وزارة الخزانة الأميركية بفرض عقوبات على أكثر من عشرة أفارقة، ترى الولايات المتحدة أنهم ارتكبوا انتهاكات حقوق إنسان في أفريقيا.
لكن.. عند تقريب الصورة، تتضح الخفايا، وتتكشف الحقائق، والتي – للأسف – لا تبدو ناصعة.
دول الساحل الأفريقي شهدت نقصًا يتراوح بين خُمس الموظفين (مالي)، وأكثر من النصف كما في حالة النيجر. وأشار التقرير إلى أن هذا العجز يؤثر على درجة تحقيق أهداف الولايات المتحدة في القارة
واقع مظلم
رغم هذه الاختراقات الدبلوماسية في ملفات مثل النزاع في شرقي الكونغو واتفاقية بريتوريا؛ فإن القضايا لم تُحلّ بعد بشكل كامل، وتشهد التوترات في كلا الملفين مدًا وجزرًا يحول دون منح الولايات المتحدة صكًا لإنهاء هذه النزاعات.
إن خطاب إعادة بناء العلاقات، والانخراط مع القارة الأفريقية، تغالطه مستويات التمثيل الدبلوماسي للولايات المتحدة في أفريقيا.
في العام 2022، كشف تقرير أعدته مجلة السياسة الخارجية عن قصور التمثيل الدبلوماسي للأميركان في القارة الأفريقية. وبحسب التقرير؛ فإن الولايات المتحدة تعاني نقصًا حادًا في موظفي سفاراتها في القارة الأفريقية. وبحسب التقرير؛ فإن سفارات الولايات المتحدة في شرقي أفريقيا تعاني فجوة كبيرة في الكادر، في مقدمة الدول التي عانت من ذلك يأتي السودان، وكان هذا قبل اندلاع الحرب، ومغادرة البعثة الأميركية للسودان.
بحسب التقرير ذاته، فإن دول الساحل الأفريقي شهدت نقصًا يتراوح بين خُمس الموظفين (مالي)، وأكثر من النصف كما في حالة النيجر. وأشار التقرير إلى أن هذا العجز يؤثر على درجة تحقيق أهداف الولايات المتحدة في القارة، ليس لأن السفارات فقط لا تعمل بكل كادرها، ولكن لأن بعض المواقع تجذب كادرًا غير مؤهل؛ إذ لا يفضل بعض الدبلوماسيين المؤهلين العمل في دول أفريقية.
لم يكن تبني الولايات المتحدة موقفًا حازمًا تجاه الانقلابات بالأمر الثابت، بل ضربت به الولايات المتحدة عرض الحائط في أحايين عدة. رغم تسلمه للسلطة في العام 2021 بشكل غير دستوري، وعمله على قمع الاحتجاجات الرافضة للتعديلات الدستورية التي تمنعه من الترشح؛ كان محمد ديبي، الرئيس التشادي (الرئيس الانتقالي وقتها) حاضرًا في القمة الأفريقية الأميركية.
تعتبر غينيا الاستوائية بلدًا مهمًا لشركات النفط الأميركية. لكن الأمر الأكثر وضوحًا هو مساعي الصين لإقامة قاعدة عسكرية بالبلد، وهو ما تعده الولايات المتحدة تهديدًا لأمنها القومي
صد الصين
إلى الجنوب قليلًا من تشاد، حيث شواطئ المحيط الأطلنطي؛ تقبع دولة الغابون. في أواخر أغسطس/ آب من العام الماضي، تمت الإطاحة بالرئيس علي بونقو أونديما من على كرسي السلطة، وتولى قائد الحرس الجمهوري، الجنرال بريس نغويما رئاسة الفترة الانتقالية، بعد انقلاب القصر الذي حدث.
ورغم أن الانقلاب قاد الاتحاد الأفريقي لتجميد عضوية الغابون، فإن الولايات المتحدة عززت دعمها للغابون ماليًا وعسكريًا، بل إن الجيش الغابوني تلقى دعوة للمشاركة في مناورات عسكرية مشتركة. أتت هذه الدعوة وكان ذلك التساهل مع الغابون؛ بسبب المخاوف التي اعترت الإدارة الأميركية بعد تصريح الرئيس الغابوني المخلوع لأحد المسؤولين في البيت الأبيض أن بلاده ستمنح الصين صلاحية إقامة قاعدة عسكرية على سواحلها.
ولضمان عدم ارتماء الغابون في حضن الصينيين، أرخت الولايات المتحدة عصا العقوبات مقابل منح جزرة أكبر للسلطة الانقلابية في الغابون؛ لأن وجود الصين على المحيط الأطلسي يمثل تهديدًا لأمن الولايات المتحدة ومصالحها، ومعالجة الأمر أكثر أهمية من استعادة النظام الدستوري والحكم المدني في الغابون. وقد باتت الولايات المتحدة تشير لقائد الانقلاب، بريس نغويما، بالرئيس الانتقالي.
على الشواطئ ذاتها التي تغاضت فيها الولايات المتحدة عن الديمقراطية، مقابل منع الصينيين من الوصول إليها وتثبيت حضور عسكري، تناست كذلك حقوق الإنسان ومعاقبة مرتكبي الانتهاكات. في غينيا الاستوائية يحكم تيودورو أوبيانغ منذ العام 1979، يعتبر الرجل شريكًا إستراتيجيًا للولايات المتحدة.. تعتبر غينيا الاستوائية بلدًا مهمًا لشركات النفط الأميركية. لكن الأمر الأكثر وضوحًا هو مساعي الصين لإقامة قاعدة عسكرية بالبلد، وهو ما تعده الولايات المتحدة تهديدًا لأمنها القومي.
إذا تأمل الإنسان في نظام مصر الحالي ودستورها السائرة عليه، يجد إسماعيل باشا إذا ظلم يظلم جهارًا والمسيطرون على مصر الآن إنما يظلمون باسم الدستور والعدالة والقانون
وعلى إثر التقارير التي كشفت عن نية الصين إقامة قاعدة عسكرية في ميناء باتا، قامت الولايات المتحدة بعدد من الزيارات رفيعة المستوى لثني الغينيين عن قبول مثل هذه الخطوة. ورغم الانتهاكات التي ترتكبها السلطات في غينيا الاستوائية، حسب التقارير التي تصفها بالمستمرة، فإنها خارج كشوف العقوبات، وأفرادها لم يكونوا ضمن قائمة العقوبات خلال اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
لم يزر الرئيس الأميركي جو بايدن القارة الأفريقية بعد.. لكن زيارته للقارة، والتي كان من المخطط لها أن تكون خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، لا تشير لشيء سوى التأكيد على أن الولايات المتحدة، باختلاف الإدارات لا تأبه كثيرًا بالديمقراطية، ولا بحقوق الإنسان!.
في الزيارة المرتقبة، كان يفترض على الرئيس بايدن أن يزور أنغولا، على المحيط الأطلسي ذاته الذي يجذب اهتمام الصين. وحسب فريدوم هاوس، فإن أنغولا تصنف على أنها بلد غير ديمقراطي، ويسجل ثمانيَ وعشرين نقطة من أصل مئة حسب تقييم المؤسسة.
ولتبيان الفرق بين الجمهوري والديمقراطي، أختم بما كتبه المصري مصطفى كامل في جريدة اللواء، قبل أكثر من مئة عام، حينما قارن بين المستعمر البريطاني والخديوي إسماعيل: “إذا تأمل الإنسان في نظام مصر الحالي ودستورها السائرة عليه، يجد إسماعيل باشا إذا ظلم يظلم جهارًا والمسيطرون على مصر الآن إنما يظلمون باسم الدستور والعدالة والقانون”.