العنف في ملاعب تونس.. وقلب الدولة الطيب!
مهما كانت الإجراءات التي ستتخذها الدولة لمواجهة العنف في الملاعب والقاعات الرياضية، فإنها ستحتاج إلى وقت، وإلى فهم خلفيات العنف.
مع نهاية الدوري التونسي لكرة القدم كل عام يتجدد الحديث عن العنف، وتلوّح الدولة بالقانون وبالعصا الغليظة لمواجهة الشباب الذين يتحدون المؤسسة الأمنية بالشعارات والاشتباكات داخل الملعب وفي محيطه، وتقوم الدنيا ولا تقعد لأسبوع واحد أو أقل ثم يسكت الجميع عن الأمر إلى حين يتجدد الاشتباك في السنة التي تليها.
قبل أسبوع اشتبك الأمن مع جمهور النادي الأفريقي في ملعب حمادي العقربي في تونس العاصمة، وحصلت اشتباكات أقل حدة وحجما في ملاعب أخرى وألعاب أخرى، ولا تجد الجهات المسؤولة أمامها سوى إصدار بيانات تلوّح فيها بتطبيق القانون.
لكن الجهات الأمنية والقضائية تجد نفسها في حيرة حين تقوم بتوقيف العشرات لتكتشف أنهم شباب صغار بعضهم أقل من عشرين عاما، وحصل في سنوات ماضية أن تم توقيف تلاميذ كانوا يستعدون لاجتياز امتحان البكالوريا (الثانوية العامة)، وقبل أيام من المناظرة الأشهر في تونس.
تخرج القصة من بعدها الأوّلي كأحداث عنف تقابل بالتنديد والوعيد لتصبح قصة إنسانية مؤلمة. تتحرك العائلات في كل اتجاه تناشد المحامين والقضاة والمسؤولين في الدولة للتدخل من أجل إطلاق سراح هؤلاء الشبان، ويرق قلب الدولة القاسي لتتنازل ثم تطلق سراحهم بعد أيام فقط.
مهما كانت الإجراءات التي ستتخذها الدولة لمواجهة العنف في الملاعب والقاعات الرياضية، فإنها ستحتاج إلى وقت، وإلى فهم خلفيات العنف ومحاولة التعاطي معها بعقلانية والاستعانة بخبراء لحل مشكلة العداء المستحكم بين الشباب الذين يذهبون إلى الملاعب وبين عناصر الشرطة.
وخلال الأحداث الأخيرة صدر بيان عن وزارة الشباب والرياضة تضمن عدة عناصر من بينها:
● الدعوة إلى تطبيق الأحكام القضائية بكل صرامة وعدم التسامح مع كل من تثبت إدانته ومشاركته في أحداث العنف والشغب داخل الفضاءات الرياضية من لاعبين وجماهير دون استثناء وفرض عقوبات على الجمعيات التي تسبب جمهورها في أحداث العنف وإلزامها بدفع كل الخسائر المادية المستوجبة.
● التحسيس بضرورة مكافحة كل مظاهر العنف داخل الملاعب والقاعات الرياضية والابتعاد عن كل أشكال التعصب والانتماءات وإيجاد حلول مشتركة للتصدي لهذه الظاهرة التي تهدد الرياضة التونسية.
● استحثاث النظر في مشروع القانون المتعلق بمكافحة العنف داخل الملاعب والقاعات الرياضية وتمريره على مجلس نواب الشعب للمصادقة عليه.
ومن الواضح أن البيان جاء كردة فعل مباشرة على الصورة التي نُقلت على الفضائيات ومواقع التواصل ما قد يوحي بأن تونس لا تسيطر على الوضع. والحقيقة أن العنف في الملاعب ظاهرة عالمية وما يزال مستمرا ويحصل في أكثر من بلد بما في ذلك في شمال أفريقيا، ولا يوحي بأن الدولة ضعيفة أو عاجزة، ولذلك فالأمر يحتاج إلى مقاربة أكثر عقلانية.
هذه الإجراءات قد تثبت قوة الدولة/السلطة وقد تساعدها على استيعاب خطاب شعبوي في الإعلام معاد للأجيال الجديدة “المتمردة” وتوظيفه والاستفادة منه، لكنه لا يحل المشكلة مطلقا.
السير في اتجاه القبضة الأمنية والقضائية سيزيد الاحتقان ويوسع دائرته، فهو ليس مرتبطا بالرياضة، وإن كانت في الرياضة أمراض كثيرة تحتاج إلى الانكباب عليها، ومنها إحساس جماهير بعض الفرق بغياب العدالة وانحياز الجهات الرياضية لفرق بعينها على حساب فرق أخرى، وهذا يتطلب حربا كبيرة على الفساد في المؤسسات التي تدير الرياضة بأنواعها المختلفة، وتفكيك لوبيات نفوذ رياضي ومالي وإعلامي تتسبب في انتشار المظلومية واليأس من العدالة.
كيف يمكن أن تقترب الدولة الحازمة من ملف النفوذ الرياضي وعلاقته بالفساد، أو ما يطلق عليها الدولة العميقة في مجال الرياضة، فهل يكون ذلك بفتح الملفات كما حصل مع رئيس جامعة كرة القدم المتخلي، أم بالتأجيل وتجنب الصدام مع “كبار” القطاع خاصة أن المس من هؤلاء يمكن أن يثير غضب الجمهور الرياضي، والبعض منهم مؤثر اقتصاديا وإعلاميا، والدولة ليست في مزاج يثير المعارك في كل اتجاه؟
ما يجري الآن لديه خلفيات وقصص قديمة ولا يمكن حلها بجرة قلم، حتى وإن كانت تلك الجرة أحكاما قضائية قاسية.
الأجيال الشبابية التي تتحدى الدولة بشعاراتها في الملاعب لا تفعل ذلك لأنها جزء من مؤامرة أو مموّلة من جهات، وإلا ما كان الأمر تكرر كل عام تقريبا. قد يكون البعض من مصلحته هذا التوتر لأجندة انتخابية، لكن بالتأكيد ليس ثمة من يقدر على توظيف الشباب لصالحه.
الشباب الذين يشتبكون مع بعض الأمنيين في الملاعب فتحوا أعينهم على الحياة في سنوات ما بعد الثورة، وتشكل وعيهم من خلال فوضى الصراعات السياسية والنقابية واستهداف الدولة وتهميش دورها وتضخيم قبضة الشارع.
سيحتاج الأمر إلى وقت أطول لتبديد تلك الصورة، ليس فقط بإظهار أن الدولة باتت قوية وقادرة على رد الصاع صاعين لأيّ كان. ربما يكون الأفضل لها أن تقترب أكثر من هؤلاء الشباب وتحاورهم عبر أشكال وفضاءات قاعدية أشبه بحملات التفسير التي رافقت انتخاب الرئيس قيس سعيد.
حتى وإن كانت الدولة عاجزة عن توفير كل ما يطلبه الشباب في ظل وضعها المالي، فإن مجرد الحوار معهم وإشعارهم بأن الدولة ليست خصما، وأنها ليست متعالية، ولا تحكي معهم فقط بالقبضة الأمنية، كل هذا يمكن أن يمتص الغضب ويقلل من التوترات التي تجري في الملاعب وفي المناسبات العامة والخاصة.
العنف الذي يلجا إليه الكثير من الشباب بما في ذلك في الفضاءات التعليمية، بين الطلاب أنفسهم، أو بينهم وبين المدرسين، هو ردة فعل على منظومة اجتماعية عاجزة عن استيعاب شخصية الأجيال الجديدة وغير مستعدة لتقديم التنازلات.
مثل الدولة، التي تلوّح بالقبضة الأمنية، فإن الأسرة والمحيط الاجتماعي والمدرسة والمعاهد والجامعات تشتغل فقط على إظهار الحزم والقوة.
وفيما تلجأ الأسرة إلى العنف الجسدي أو النفسي لإخضاع الجيل الجديد لنواميس قديمة، تلجأ المؤسسات التربوية إلى قوانين جامدة، مثل مناهج التدريس تماما، وذلك بتوقيع العقوبات الرادعة لحفظ صورتها كمنارة علم وحفظ منزلة المربي كسلطة معنوية، ومثلها يحتمي الشارع بالمؤسستين الأمنية والقضائية لإسكات صوت الأجيال الصاعدة.
لا أحد يبرر العنف من الجهتين، لكن من المفيد بالنسبة إلى الدولة أن تشتغل على فهم أسبابه العميقة خاصة بالنسبة إلى الأجيال الجديدة التي يمكن استيعاب قدرتها العنفية وتحويلها إلى طاقة فعل إيجابية لصالح الدولة. ومن الطبيعي أن هذه المهمة لا يمكن أن تترك للجان تتشكل على عجل وبعقلية تهدف إلى سرعة إغلاق الموضوع وإظهار براعة الدولة أو الوزارة في الالتفاف على العنف وتلطيف الأجواء.
تحتاج الدولة إلى خبراء محايدين تترك لهم الوقت ليبحثوا في الظاهرة ويقلّبوا صورها، ويجيبوا عن الأسئلة بدم بارد. صراع الأجيال في وقتنا الحالي أعمق بكثير من الصراع في أزمنة ماضية. صراع بين ثقافة القلم والتمدرس الورقي ومعايير النجاح التي تعطي الشغل المضمون والراتب القار الأهمية العليا وبين أجيال جديدة كل دنياها افتراضية من الدراسة إلى الألعاب إلى الأمنيات إلى مجالات الاهتمام.
قطيعة متأسسة وموضوعية ومن الصعب جسرها أو تذويبها لمصالحة الماضي مع الحاضر، وتحتاج إلى جرأة من مؤسسات السلطة التقليدية (الدولة/الأسرة/المدرسة/المجتمع/الإعلام) إلى الاعتراف بالقطيعة أولا والتفاعل معها وتأسيس أرضية حوار انطلاقا منها للوصول إلى نتائج توقف العنف الذي هو في الأصل رسالة/أداة لجلب الاهتمام والاحترام وإثبات الذات.