الطريق إلى دمشق سالك.. ولكن
الأسد كان له موقف واضح وصريح في ما يخص النشاط العسكري التركي في شمال سوريا باعتباره ينتهك السيادة السورية ولا يبني أي فرص تعاون حقيقية مع الجانب التركي
قبل سنتين وعلى هامش قمة المجموعة السياسية الأوروبية في براغ لم يستبعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إمكانية عقد لقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد بغية الترتيب لإعادة تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا، وكانت تلك التصريحات بمثابة إشارة واضحة من أعلى هرم السلطة تؤكد وجود قناعة تركية في أن التعاطي مع الملف السوري يجب أن يأخذ بعين الاعتبار السياقات والتغيرات الجيوستراتيجية التي حصلت بعد الانفتاح الخليجي والعربي على نظام الأسد، والفشل في جولات جنيف وأستانة وسوتشي في فرض المنطق التركي في شمال سوريا، لكن الأمور لم تجر كما كان متوقعا لها في غياب إشارات إيجابية قوية من “قصر الشعب” في دمشق.
الأسد كان له موقف واضح وصريح في ما يخص النشاط العسكري التركي في شمال سوريا باعتباره ينتهك السيادة السورية ولا يبني أي فرص تعاون حقيقية مع الجانب التركي الذي يحاول إرساء قواعد الأمر الواقع شمال سوريا وفقا لما تمليه ضرورات الأمن القومي التركي. كانت المفاوضات بالنسبة إلى نظام الأسد أحسن وسيلة لكسب الوقت ريثما يتم تحسين الوضع العسكري في العمق السوري وفعلا نجح في ذلك بينما بقيت الهواجس الأمنية التركية موجودة إلى اليوم.
وساطة روسيا تمكنت لسنوات عبر الحيل التفاوضية من تعطيل أي عملية سياسية يراد لها أن تكون على حساب نظام الأسد ومع ذلك حاولت قدر الإمكان الحفاظ على توازن العلاقات مع أنقرة، سنوات بعد أن نجحت موسكو في إبقاء الوضع على ما هو عليه، قدمت وساطتها التي مكنت من تحقيق أول اختراق في مسار عودة العلاقات بين البلدين بعد أن استضافت للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب السورية لقاء جمع وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات لكل من روسيا وتركيا وسوريا في يناير من سنة 2022 حيث تم بحث سبل حل الأزمة السورية ثم تلاه لقاء رسمي آخر بين وزيري خارجية تركيا وسوريا يمكن وصفه باللبنة الأساسية في مسار إعادة تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا ولا شك أن اجتماع بغداد المرتقب سيبدأ من النقاط التي انتهى عليها اجتماع مولود جاويش أوغلو وفيصل المقداد في موسكو العام الماضي.
صحيح أن احتمالات عودة ترامب إلى البيت الأبيض تخدم أردوغان لأنها ستسرع من خطة الانسحاب الأميركي الكامل من شمال سوريا وبالتالي تفتح الباب لإقامة منطقة آمنة خالية من “وحدات حماية الشعب” الكردية و”حزب العمال الكردستاني”، وتزيد الضغوط على “قسد” لأنها ستفقد دعم واشنطن، لكن من يضمن أن تبقى العملية العسكرية التركية موجهة فقط ضد وحدات حماية الشعب وقوات قسد وحزب العمال الكردستاني وأن لا تنتقل إلى صدام مع إيران وروسيا وسوريا؟ ألا يبدو خيار العودة إلى ما قبل 2011 خيارا يضمن لتركيا حماية أمنها القومي بأقل الأضرار؟ لا أظن أن أردوغان يقصد شيئا آخر عندما قال “سنعمل معا على تطوير العلاقات مع سوريا بنفس الطريقة التي عملنا بها في الماضي”.
الدافع المشترك في تفكيك قوات سوريا الديمقراطية “قسد “يجب أن يتجاوز جميع نقاط الخلاف الكبيرة والصغيرة بين تركيا وسوريا، لهذا من المستبعد أن يكون اجتماع بغداد مكانا مناسبا للحديث عن التسوية السياسية وقرار مجلس الأمن 2254 أو العودة إلى الحلقة المفرغة لجولات أستانة. الجانب التركي ليس ذاهبا إلى بغداد لتقديم محاضرة في حقوق الإنسان والديمقراطية ولا السوري مستعد لسماع ذلك، لا بد أن يكون القصد من هذا الاجتماع هو بحث التوصل إلى صيغة توافقية لتنسيق عسكري في شمال سوريا ضد “قسد”، لكن لنجاح هذه الصيغة يستوجب من الجانب التركي تلبية المطالب السورية المتعلقة بالسيادة دون قيد أو شرط، غير ذلك فإنه لا يمكن توقع أن نصل إلى شيء، وليترجم هذا الاجتماع إلى الخطوات التنفيذية، يجب أن تكون لتركيا الشجاعة الكافية للإعلان وبوضوح عن انتهاء الدور الوظيفي للمعارضة السورية المسلحة المدعومة من قبلها.
رسائل الود الأخيرة بين النظامين التركي والسوري كانت بمثابة إعلان حرب بالنسبة إلى الأطراف المستفيدة من الوضع الأمني الذي يشهده الشمال السوري منذ اندلاع الأحداث في سوريا، لذلك ليس من الصعب تحديد هوية المحركين لأعمال العنف في ولاية قيصري التركية ومن غير المستبعد أن تقف هذه الأطراف نفسها وراء هجمات إرهابية من المحتمل أن تحدث داخل تركيا لتفسد موسمها السياحي، هدفها الأساسي هو إيصال رسائل تحذيرية تجهض هذا التقارب.