في 11 سبتمبر (أيلول) 2024، اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في اجتماع مع أعضاء الحكومة، “التفكير في وضع قيود معينة” على توريد أنواع محددة من السلع للخارج، وذلك عندما تحد دول أخرى تدفق البضائع إلى روسيا. كنا نتحدث عن المعادن، وتحديدًا “النيكل” و”اليورانيوم”. وهذه ليست الخطوة الأولى من نوعها في تاريخ حرب العقوبات بين روسيا والدول الغربية، ولكن لأول مرة يتم الحديث عن إجراءات تتعلق بسلع التصدير، التي تشكل جزءًا كبيرًا من الصادرات الروسية، وتجلب دخلًا أجنبيًّا كبيرًا بجانب أرباح الصرف.
وقد دُعم هذا البيان ببيان آخر أكثر أهمية: “بعد أسبوعين، في الاجتماع الدائم لمجلس الأمن القومي المعني بالردع النووي، أعلن فلاديمير بوتين تغييرات في أساسيات سياسة الاتحاد الروسي في مجال الردع النووي”. هذه التغييرات في ذاتها ليست جذرية بطبيعتها؛ بل هي مكملة، وتوسع معنى الوثيقة الحالية المعتمدة في عام 2020، وفقًا لواقع اللحظة الراهنة، وهذا ما أجبر المراقبين مرة أخرى، وخاصة في الغرب، على التفكير في ماهية “الخطوط الحمراء” التي لدى روسيا، وما الذي يسترشد به فلاديمير بوتين، وما هو منطق عمله العام. ويبدو أن مصطلح “الخط الأحمر” هو الخطأ المنهجي الرئيس للمراقبين الغربيين، الذين يحاولون تفسير تصرفات القيادة الروسية استنادًا إلى عقليتهم، وتقاليدهم، وطريقة عملهم، وغالبًا ما يحاولون تطبيق أسلوب عمل الحرب الباردة على أحداث اليوم. دعونا نفترض أن جوهر السياسة الخارجية الروسية في عهد فلاديمير بوتين مختلف تمامًا.
إذا ما نحينا جانبًا تاريخ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبدأنا عملية الحساب من الفترة التي سبقت بدء “العملية العسكرية الخاصة”، يمكننا أن نرى أن القيادة الروسية عارضت -بشدة- التوصل إلى حل قوي للقضية في شرق أوكرانيا، وعرضت -بانتظام- إجراء مفاوضات على الغرب، وأشارت -باستمرار- إلى مخاوفها الأمنية الناجمة في المقام الأول عن تصرفات دول الناتو في المناطق المتاخمة لروسيا. من الواضح أن قرار شن “عملية عسكرية خاصة” اتُّخِذ على خلفية كيفية زيادة إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا على نحو حاد منذ نهاية عام 2021، وديناميكيات القصف في دونباس في ديسمبر (كانون الأول) 2021، حتى فبراير (شباط) 2024، التي تمثل المرحلة الساخنة من مستوى الحرب الأهلية الأوكرانية (2014- 2015).
بالإضافة إلى ذلك، فإننا نرى المنطق نفسه تقريبًا في جميع القرارات المتعلقة بالخط الخارجي للسياسة الروسية. وفي المجال الاقتصادي، اتُّخِذَت عدة إجراءات ردًا على ما يمكن وصفه “بالقنبلة النووية المالية”، التي انفجرت في الأشهر الأولى من “العملية العسكرية الخاصة”. في المجال العسكري، حدثت تغييرات عميقة في هيكل التقسيم الإداري العسكري للبلاد (تغيير أكبر في عدد المناطق العسكرية بسبب إلغاء المنطقة العسكرية الغربية، وإعادة إنشاء منطقتي موسكو ولينينغراد)، وجاءت الزيادة في مستوى التوظيف في القوات المسلحة في أعقاب التوسع التالي لحلف شمال الأطلسي، هذه المرة إلى الشمال، فضلًا عن المشاركة المتزايدة للهياكل العسكرية لحلف شمال الأطلسي في سياق الأعمال العدائية على أراضي أوكرانيا.
يمكن تتبع منطق مماثل في مجال الأسلحة النووية والإستراتيجية. ليس سرًّا أنه منذ بداية العملية العسكرية الخاصة في الغرب، نوقش الموضوع المتعلق بإمكانية استخدام روسيا للأسلحة النووية على أراضي أوكرانيا من أجل تحقيق النصر العسكري في أقرب وقت ممكن. يؤخذ في الحسبان التفسير الرسمي للوثائق الروسية المفتوحة في هذا المجال، بالإضافة إلى عدد من تصريحات السياسيين والمسؤولين الروس. التقط عدد من الخبراء والشخصيات العامة الروسية الفكرة نفسها، وحفّزوا هذه البادرة بالاعتبارات نفسها تقريبًا. بالإضافة إلى ذلك، في مجتمع الخبراء الروسي، يُسمح باستخدام الشحنات النووية نفسها، وإجراء تجربة نووية توضيحية في موقع التجارب النووية المركزي للاتحاد الروسي في أرخبيل نوفايا زيمليا، خاصة أن الاتحاد السوفيتي وروسيا لم يُجريا تجارب نووية منذ عام 1990.
في رأينا، توضح هذه الحالة جيدًا النهج المدروس للرئيس الروسي تجاه تحديات السياسة الخارجية. في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية في عام 2023، صرح فلاديمير بوتين قائلًا: “نحن -بالطبع- لن نكون أول من يقوم بعملية الاختبارات النووية، ولكن إذا أجرت الولايات المتحدة اختبارات، فسنجريها أيضًا”. وبعد بضعة أشهر، اعترف بوتين بأن روسيا قادرة على “التصرف وفق نظرية المرآة” فيما يتصل بمسألة التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (أي ستكون سياستها انعكاسًا لمواقف الولايات المتحدة)، أو على وجه التحديد سحب تصديقها؛ لأن الولايات المتحدة لم تصدق على هذه الوثيقة بعد؛ وهنا نصل إلى ما نعتقد أنه جانب رئيس: “فقد عبّر رئيس البلاد عن عقيدته الرئيسة في السياسة الخارجية”، القائمة على “الانعكاس”، أو بعبارة أخرى، مدى تناسب أفعاله في الرد.
وفي حالة التأثير في روسيا، فإن قيادتها تتخذ خطوات متناظرة ومتماثلة تمامًا، لا تهدف إلى تخويف الخصم بقدر ما تهدف إلى استعادة استقرار النظام، كما يتخيل الرئيس. ومعنى هذا التوجه هو أن نظام العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف، الذي تعد روسيا أحد أطرافه، لا ينبغي له أن يصبح غير متوازن، وهو ما قد يكون ناجمًا إما عن عدم وجود رد فعل من جانب روسيا، وإما عن طريق التدابير الانتقامية المفرطة، وهذا -كما يمكن للمرء أن يفترض- هو السبب -على سبيل المثال- في استمرار تصدير موارد الطاقة إلى الغرب من خلال أوكرانيا، أو عدم التعرض للقيادة العسكرية السياسية في كييف. يمكن أن يكون الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع أكثر المشاركين بغضًا في قائمة الدول غير الصديقة علامة على هذا النهج، حتى لو بدا للوهلة الأولى أنه لا يوجد أي معنى عملي في هذا.
وعلى هذا، فقد تولت روسيا في عهد فلاديمير بوتين -طوعًا- دور “جهاز الارتداد”، وتخلت عن السياسة الاستباقية في أغلب المجالات. وقد أعرب الرئيس الروسي عن وجهات نظر مماثلة من قبل -إلى حدٍّ ما- سبق عرضها خلال خطابه الشهير في مؤتمر ميونخ، في فبراير (شباط) 2007. كان الأمر متعلقًا بمحاولة استعادة استقرار النظام العالمي الجديد الذي ظهر بعد نهاية الحرب الباردة، ولكن ليس من خلال الانتقال إلى منطقة المصالح الغربية، ولكن من خلال استعادة التوازن الذي ذهب بعيدًا في المجال ضد المصالح الروسية.
غالبًا ما تبدو خطابات فلاديمير بوتين وكلماته مجازية، وقائمة على التلميح أكثر من التصريح المباشر؛ مما يجعل من الصعب على الجماهير الأجنبية إدراك المعنى الحقيقي خلفها، وهذا يثير تفسيرات مختلفة لتطلعاته وتصرفاته بين السياسيين والخبراء الغربيين، وتخضع هذه التفسيرات لتصوراتهم الأيديولوجية، والنفسية، والثقافية، مما يدفعهم إلى أن ينسبوا إلى روسيا تصورات وهمية عن “الخطوط الحمراء”، بدلًا من رؤية عامل استقرار فعال، يخضع لمنطق مختلف تمامًا.