الدولة في تونس تُلام إن لم تتدخل وتُهاجم إذا تدخلت
من الصعب على الدولة التي يطلب منها الناس التدخل في كل صغيرة أو كبيرة في حياتهم أن تبقى بمنأى، وألا تتدخل في تفاصيل اجتماعية وسياسية يراد لها أن تكون حكرا على النقابات أو الأحزاب والجمعيات الحقوقية والمدنية
منذ الاستقلال في 1956، بنى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة دولة تقوم على فكرة الأبوة، فهي من توفر التعليم المجاني، وتنفق على التلاميذ والطلبة، منحا ومساعدات مختلفة، لينجحوا ويتخرجوا في الجامعة، ثم توظفهم في مؤسسات الدولة وتعطيهم رواتب تجعلهم يعيشون في مستوى اجتماعي مريح، وتتدخل لتدعم الأسعار لتكون ملائمة لجميع الفئات.
من تلك اللحظة بات التونسيون يعتبرون أن من واجب الدولة أن تفكر فيهم، وتفكر مكانهم، وتعمل على توفير الظروف المريحة لهم أيا كانت ظروفها وإمكانياتها، أكانت تمتلك المال أم في وضع صعب، خاصة أنها ليست دولة منتجة للنفط والغاز مثل جيرانها.
لقد خلق بورقيبة نموذجا لدولة تجعلها دائما تحت الضغط، ومهما عملت وأنفقت، فهي مقصّرة بالضرورة، وتجد في وجهها وباستمرار نقابات ومجموعات سياسية تتّهمها بالعجز، والتآمر على الموظفين والعمال وسرقة الأموال وتهريبها إلى الخارج.
وهذا الشعب لا تنتهي مطالبه، ولا يهتم لقدرات الدولة، فهو حين يمرض يريدها أن تداويه، وإن داوته فهي مقصّرة وإن لم تداوه فهي متآمرة. وفي قمة أزمتها الاقتصادية، كانت تبحث له عن مسارب لتشغّله في الداخل والخارج، وإذا أبطأت فإنه يتظاهر ضدها.
ليس مهمّا إن كانت التهم حقيقية أم مفتعلة، المهم أن الدولة مطالبة بأن تستجيب لما يريده الشعب الذي علمته وثقّفته وشغّلته وعوّدته على أن ينتظر منها الحلول دائما.
حين تحصل أزمة، ولو محدودة، في أيّ قطاع، فإن الناس يلتفتون للدولة ودورها، ولو كان الأمر لا يخطر على بال. فلو عجز مزارعون على بيع المشمش أو اللوز أو الفستق أو زيت الزيتون في السوق المحلية، خاصة حين تكون الصابة (الإنتاج) قياسية، فإنهم يلومون الدولة بأنها لم تتحرّك لتسويقه، ويقولون إن مزارعي الدولة الفلانية نجحوا في تسويق إنتاجهم لأن حكومة بلادهم ساعدتهم.
في تقرير أخير نشرته وكالة الأناضول حول العقبات التي تعترض تسويق المشمش في إحدى المناطق بولاية القيروان (وسط)، طالب المزارعون “السلطات المعنية بالمساعدة في التسويق، وإيجاد الحلول لتخزين المنتوج وبيعه في ظروف أفضل”.
المطلب نفسه كان يقدمه منتجو القوارص (الحمضيات) وزيت الزيتون كل عام يحثّون الدولة على التفاوض باسمهم مع الأسواق التقليدية في أوروبا بعد أن تراجع اعتمادها على المنتوج التونسي في ظل إعطاء الأولوية لدول الاتحاد الأوروبي التي تمتلك نفس الخاصيات المناخية لتونس مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان التي تنتج نفس ما تنتجه تونس.
وفي قطاع الحبوب يحدث نفس الشيء تقريبا، فإذا كان الإنتاج وفيرا، فإن الاتهامات توجه إلى الدولة بالتقصير وعدم التدخل للمساعدة في تخزينه، وعدم وضع أسعار مجزية للمزارعين تساعدهم على تحقيق مكاسب تعوض الخسائر في سنوات سابقة، علما أن ديوان الحبوب (مؤسسة حكومية) هو من يتولى شراء كميات كبيرة من القمح والذرة والشعير من المزارعين.
وحين يكون الإنتاج شحيحا، فإن الدولة لا تسْلم من الانتقادات المعهودة، ويطالبها المزارعون بالتدخل لدى البنوك الحكومية لشطب جزء من الديون المتراكمة عاما بعد عام، وإعادة جدولتها مرة أخرى.
وفي قطاع السياحة، أيضا، تتحرك الدولة في كل اتجاه، وخاصة في سنوات ما قبل 2011، للبحث عن أسواق جديدة موظفة علاقاتها الدبلوماسية، وتضع وزارة السياحة الخطط وتنوع البرامج لزيادة أعداد السياح. مع العلم أن المجال السياحي بتفاصيله يسيطر عليه القطاع الخاص، والدولة تتحرك وعينها على تأمين مئات الآلاف من الوظائف خاصة بعد ما أحدثته أزمة كوفيد من إرباك للقطاع.
وقال وزير السياحة التونسي محمد المعز بلحسين في مايو الماضي في تصريحات لموقع “العين” الإماراتي إن وزارته تسعى إلى الترويج للوجهة السياحية التونسية خاصة في أسواق واعدة منها إندونيسيا والصين وكوريا الجنوبية وأميركا الجنوبية، إضافة إلى دفع سياحة الجوار (الجزائر وليبيا) والسياحة العربية عموما.
وفي مجال التشغيل، فإن الدولة تتحرك لربط العلاقات بين الخريجين الجدد من الجامعات وأصحاب الدبلومات المطلوبة في الأسواق القريبة (أوروبا والخليج) عن طريق وكالة التعاون الفني، أو الوكالة الوطنية للتشغيل بالخارج، وكلاهما وسيط فعال لصالح العمالة التونسية في الخارج.
وخلال السنوات الماضية، نجحت تونس في تأمين عقود عمل لقطاعات مختلفة مثل العاملين في القطاع الصحي، أو الحاملين للدبلومات. وتقوم الأجهزة الحكومية بتوفير العقود والسهر على انتقال المتعاونين ومتابعة أوضاعهم، ثم وهذا الأهم إعادة إدماجهم في السوق المحلية بعد إنهاء عقودهم.
وفي الداخل، تمنح الدولة امتيازات لصالح الشركات الخاصة لمساعدتها على استقطاب العمالة المتخصصة وخريجي الجامعات، وتقدم المنح والتسهيلات والتأمين خلال فترة التدريب. والآن تقوم الدولة بإقناع المؤسسات البنكية بتمويل الشركات الأهلية التي يشترك في تأسيسها الشباب وخاصة من خريجي الجامعات، وتلاقي صعوبات لغموض مهامها، خاصة لأنها تجربة جديدة تتخوف الجهات البنكية من جدواها.
وحين تقع أزمة في قطاع مّا تجد الدولة أول من يتحرك للبحث عن حل، من ذلك أوضاع المؤسسات الإعلامية المصادرة، وهي تسمية تشير إلى المؤسسات التي كانت على ملك أشخاص محسوبين على نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
في البداية سعت الدولة للتفويت في بعض المؤسسات المصادرة لصالح القطاع الخاص مع ضمان حقوق الموظفين والإعلاميين.
وحين قوبلت المحاولة بالرفض عمل الرئيس قيس سعيد على تكفل الدولة بهذه المؤسسات مثل إذاعة “شمس أف أم” بإلحاق العاملين بها بالإذاعات الحكومية، فيما يجري الإعداد لدمج دار الصباح مع مؤسسة لابريس الحكومية التي تعاني بدورها من أزمات مالية حادة مع تراجع الإعلام الورقي وعدم الاستعداد للانتقالي للعمل أونلاين.
لكن الدولة التي عليها أن ترعى الجميع في أيّ قطاع وأيّ مؤسسة، وأن تتدخل بالسرعة القصوى، يجب أن يبقى تدخلها عند تلك النقطة، أن تعطي وتهب وتشغّل من دون التدخل في التفاصيل، من ذلك دورها في إنقاذ الإعلام، ما يزال ينظر إليه على أنه محدود وغير فعال ولا يبرر بأيّ شكل أن تتدخل في توجيه ملاحظات أو انتقادات على أدائه، حتى ولو كان إعلاما حكوميا (عموميا).
من الصعب على الدولة التي يطلب منها الناس التدخل في كل صغيرة أو كبيرة في حياتهم أن تبقى بمنأى، وألا تتدخل في تفاصيل اجتماعية وسياسية يراد لها أن تكون حكرا على النقابات أو الأحزاب والجمعيات الحقوقية والمدنية، أي تكون مثل المتصوف الذي لا يهتم سوى بنفسه ولا ينظر إلى ما حوله وكأنها ليست دولة وإنما تكية أو زاوية.
الدولة في مرحلة ما بعد 25 يوليو 2021 باتت تضع نفسها في قلب كل التفاصيل التي تهم الناس، وهذا ما يفسر ارتفاع منسوب الانتقادات الموجة لها. الحكومات الضعيفة التي جاءت بعد 2011 كانت تتجنب الاحتكاك بالنقابات والجمعيات وبوسائل الإعلام حتى لا تثير من حولها أزمات وتعقيدات هي في غنى عنها. لكن الوضع الآن اختلف، فالدولة تريد أن تفهم ما يجري عن قرب وبنفسها وليس عن طريق وكلاء أو وسطاء أو “أصدقاء”، وهذا أثار ما ضدها غضب اللوبيات المختلفة.
تدخل الدولة في التفاصيل مكّنها من معرفة آليات الفساد وتشابكاته وتقاطع نفوذ المتدخلين من رجال مال وسياسة وإدارة في حركة التفافية مستمرة تهدف إلى إضعاف الدولة وسحب نقاط قوتها وقدرتها على الإدارة. لم يكن الاختراق فقط بوضع أناس في غير مواقعهم، ولكن بوضع اليد على مصالح الدولة ومؤسساتها وأدواتها وموظفيها لخدمة اللوبيات، وهذا سر التحرك المتزامن لعش الدبابير.