الحجّاجُ والأسد.. كيف يصنعُ الحقدُ ديكتاتوراً؟
قد يعترضُ مؤيّدو الحجاج على هذه المقارنة بين حافظ الأسد والحجاج، وقد يكون مردّ الاحتجاج هو فارق الإنجاز بين الحجّاج الذي أسهم بقوةٍ في توحيدِ الإمبراطورية الأموية، وحافظ الأسد الذي مزّق بسياساته دولة صغيرة اسمها سورية.
كنّا، رائدة وأنا، نشاهدُ مسلسلَ “الحجّاج بن يوسف الثقفي” للمخرج محمد عزيزية، وتحديدًا الحلقة العاشرة منه، لا لسببٍ ما، إنّما تزجية للوقتِ في يومِ عطلةٍ روتيني. قطعت رائدة حبل الصمت متسائلة: كيف كانت طفولةُ الحجاج ونشأته؟
مبعثُ التساؤل كان مشهداً من المسلسل يرفض فيه الحجّاج نصيحةَ أحد معاونيه، مُظهراً جبروتاً واستبداداً وتمسّكاً بالرأي، ولمّا يكتشّف خطلَ رأيه وصوابَ مشورةِ مساعده، ينتحي به جانباً ويعترف له بخطئه، إنّما مع تحذيرٍ شديدٍ بألّا يُظهر معارضته أمام جنده.
كان الحجّاجُ يقودُ جنده في طريقه من دمشق إلى الحجاز، حاملاً رسالة عبد الملك بن مروان إلى عبد الله بن الزبير، ليتنازل عن الخلافةِ لعبد الملك والأمويين، وإلّا فالحرب هي الفيصل. ومعروف في تلك الفترة التاريخية، وتحديداً في فترةِ خلافة الوليد بن عبد الملك، كثرةَ الفتن والاضطرابات التي كانت تعصف بالعالم الإسلامي، حيث الصراعات على السلطة وصلت إلى ذروتها؛ فأمير للمؤمنين في الحجاز هو عبد الله بن الزبير، وزعيم الخوارج، قطري بن الفجاءة، يُطلق على نفسه أيضاً لقب أمير المؤمنين ويقتطع جزءاً من الدولةِ الإسلامية، بالإضافة إلى خلافةِ الأمويين وكانت عاصمتها دمشق. ومع كلّ ما سبق، كان هناك تهديد خارجي على تخومِ تلك الدولة يتمثّل في الروم البيزنطيين.
في خضمِّ تلك الفتن والاضطرابات كان نجمُ الحجاج يبرز، وخصوصاً بعد عودته بصحبةِ الوليد بن عبد الملك من العراق منتصراً على إمارة مصعب بن الزبير، الشقيق الأصغر لعبد الله بن الزبير الذي نصّب نفسه خليفة للمسلمين، ويتخذُ من مكة المكرمة عاصمة لخلافته.
ما يهمنا من كلّ هذا التكثيف التاريخي هو جزئية مهمة في شخصية الحجاج؛ تلك الشخصية التي غدت أسطورية وباتت تُسبغ عليها الكثير من الصفات، سواء إيجابية من قبل مؤيّديه، أو سلبية من قبل معارضيه: فما هي الأسباب الحقيقية التي جعلت من الحجاج مستبدّاً متعطّشاً للدماء؛ وهي صفة يُجمع عليها مؤيّدوه ومعارضوه؟
الصحافي والكاتب البريطاني باتريك سيل وثّقَ وكتبَ سيرة حافظ الأسد في كتابٍ ضخمٍ تجاوز ثمانمائة صفحة من القطعِ الكبير بعنوان “حافظ الأسد والصراع على الشرق الأوسط”. يقول سيل إن حافظ الأسد عندما كان في المرحلةِ الثانوية في ثانوية جول جمال في اللاذقية مع زميلٍ له، واحد فقط، وهما يتحدّران من الطائفة العلوية، كان يمكن تمييزهما بسهولة من ملابسهما الريفية الرثّة ومظاهر الفقر الواضحة عليهما من بين جميع زملائهما الأثرياء المتحدّرين من الطائفةِ السنية. ويؤكد سيل أنّ الحقد كان يلمعُ في عيونِ حافظ الأسد، ومرّد ذلك (وفقًا لسيل)، الظلم الكبير التي تعرّضت له الطائفة العلوية تاريخياً.
فيما بعد، يعرفُ معظم السوريين كيف أفرغَ حافظ الأسد ذلك الحقد، ومجزرة حماة في الثمانينيات من القرن الماضي هي التجلّي الأبرز لحقدٍ دفينٍ لم يرتوِ، واستمر (الحقد) مع الابن الوريث، وباتَ “سياسة رسمية”، لتصبحَ سورية كلّها حماه، في مسلسلٍ دامٍ، حلقاته لا تزال مستمرة.
في ما يتعلّق بالحجاج “معلم الصِّبيان”؛ فالحقدُ مكوِّن رئيسي في شخصيته التي تمّت أسطرتها، كما ذكرنا سابقاً. وذلك الحقد مردّه، ربّما، ليس “تواضع” الأصل كما لدى حافظ الأسد بين العشائر العلوية نفسها، وفقاً لمصادر تاريخية متعدّدة، أو ذلك الظلم الذي تعرّضت له الطائفة العلوية، إنّما يتأتّى لدى الحجاج من “تواضع” المهنة سبباً أول. أمّا السبب الثاني، فهو الحيف الذي لحق بقبيلته عندما وقفت على الحياد في الصراع بين الزبيريين والأمويين، وكانت نتيجته “تدحرج” رأس جده بين الفريقين.
كان الحجاج وقُبيل مغادرته الطائف، مسقط رأسه، يعلّم الصِّبيان القرآن الكريم من دون أجر، وعلى جلالةِ وقدرِ تلك المهنة، أقلّه افتراضياً في زمن صحابة رسول الله، لكن عملياً لا يُكنُّ لها الكثير من الاحترام في مجتمعٍ يتفاخر بعصبياتٍ جاهليةٍ لم يستطع الإسلام كسرَ شوكتها.
وعدم الاحترام هذا الذي عانى منه الحجاج، والإهانات التي تلقّاها من الزبيريين؛ دفعته لهجرة الطائف نحو دمشق، وهو يرسم ويخطّط لطموحاتٍ لا حدود لها.
يعودُ الحجاج بعد سنوات إلى الطائف والحجاز كلّه على رأسِ جيشٍ كبير لـ”يؤدّب” كلّ الخارجين عن سلطةِ الدولة الأموية، ولم يتوانَ عن قصف الكعبة بالمنجنيق، حسب الروايات التاريخية. يقول في تشفٍّ واضح وهو يحاصر مكة: “معلم الصِّبيان الذي خرج من الحجاز يوماً يعود إليها بجيش لم يره الحجاز من قبل؛ ذهبتُ عنكم قليل الشأن، وعدتُ إليكم مارداً جباراً عظيم الشأن”.
في الختام، قد يعترضُ مؤيّدو الحجاج على هذه المقارنة بين حافظ الأسد والحجاج، وقد يكون مردّ الاحتجاج هو فارق الإنجاز بين الحجّاج الذي أسهم بقوةٍ في توحيدِ الإمبراطورية الأموية، وحافظ الأسد الذي مزّق بسياساته دولة صغيرة اسمها سورية. وربّما ينطلق معارضو الحجاج في معارضتهم من المعيار المطلق للأخلاق “لو كانت سعادة البشرية تتوقف على قتل طفل واحد؛ فإن قتله عمل غير أخلاقي”، وأيضاً، الديكتاتورية والاستبداد بذرة خرابهما كامنة فيهما، والحصاد سيكون مرّاً ومريراً، ولو بعد حين.
بين هذا وذاك؛ أردت فقط، وعلى عجالةٍ، الإضاءة على كيف يصنع الحقد ديكتاتوراً، هذا الحقد الذي يعتبره لينين “موجّه سيئ في السياسة”.