ليس هناك تفسير لحالة التوتر والريبة بين قطاع الإعلام والسلطة. إلى حد الأمس القريب ساهم الإعلام بدور فعال في التمهيد لإجراءات 25 يوليو 2021. كان أحد الفاعلين المؤثرين في مواجهة المنظومة السابقة، وقبلة لمن ينقدونها. وخدم من دون سابق خطة أو تنسيق أو توجيه صعود قيس سعيد كبديل.
ما حصل بعد ذلك أن الإعلام يريد الحفاظ على مناخ الحرية الواسع الذي حصل عليه ما قبل 25 يوليو ومكّنه من تحقيق هدف مشترك بينه وبين قيس سعيد، أي خلق المناخ الملائم للتغيير. لكن الرئيس سعيد ينظر إلى الأمر من زاوية، وهي أن السقف العالي من الحرية في المشهد السمعي والبصري على وجه الخصوص هو امتداد لحالة الفوضى العامة التي أضعفت الدولة وهزت من صورتها واستهدفت رموزها، ويجب أن يتكيف الإعلام مع القطيعة التي تريد أن تؤسس لها الدولة، وأن يكون داعما وموجّها للانتقال، وبأسلوب خال من الأدوات التي كان يعتمدها في المرحلة الماضية.
هناك مفارقة تحتاج إلى تبيان وشرح، وهي أن إعلام التهويل الذي يعارضه قيس سعيد لا يقف وراءه الإعلام المهني، ولا يدير حواراته من يتخذون من الإعلام مهنة ومستقبلا قبل الثورة وبعدها، بل الكثير ممن دخلوا المجال فجأة من قطاعات أخرى مختلفة ليصبحوا نجوما للحوارات (محامون، فنانون، لاعبو كرة، وآخرون لا يعرف لهم اختصاص ولا مستويات علمية)، وما يقوم به هؤلاء من أخطاء وتجاوزات واستعراضات وتصفية حساب وخرق لتقاليد المهنة يُحسب على الإعلام في سلة واحدة وتتم شيطنة القطاع.
وفيما ينظر البعض إلى الخلاف في مجاله السياسي، الذي يتعلق بنقد أداء الحكومة/الدولة/السلطة، في بعض وسائل الإعلام الخاصة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، كعلامة على التوتر بين السلطة والإعلاميين، إلا أن هذا المجال على حساسيته، التوتر فيه محدود، وهو في الغالب يتعلق بانتقاد المرسوم 54 والمطالبة بتعديل بنوده أو تقييم أداء بعض الوزارات والمسؤولين، ومجال التعرض فيه للرئيس سعيد يكاد يكون مفقودا عدا إشارات وتلميحات لا تساوي شيئا عمّا كان يقال ما قبل 25 يوليو.
ما نجده الآن أن السلطة والإعلام يشتبكان في الجدل السياسي بعيدا عن التغطيات الأساسية المهمة لصالح المجتمع. الإعلام يرى أن السلطة تستهدفه وتضيّق عليه الخناق، والسلطة تنظر إلى المشهد من بوابة الماضي، وترى أن الأفضل بالنسبة إليها ألاّ تتعامل مع الإعلاميين. هناك سوء فهم يمكن الاشتغال لإزالته.
الأزمة على هذا المستوى يمكن تطويقها بيسر على هذا المستوى، من خلال انفتاح السلطة/الدولة على المؤسسات التمثيلية للإعلاميين، والحوار معها، وتطوير التفاهمات لوضع مدونة سلوك توافقية تحل الكثير من التفاصيل الخلافية، فلا تكون على حساب حرية الإعلاميين ومصداقيتهم لدى الجمهور، وتبدد شكوك السلطة في وجود استهداف منظم ضدها لاعتبارات سياسية.
لا شك أن الحوار سيحل الكثير من نقاط الخلاف، وأهم شيء أنه يزيل الحواجز النفسية من الجهتين، ويبدد لدى الإعلاميين فكرة أن السلطة/الدولة تريد وضع يدها على الإعلام، وأنها تريد تخويف الإعلاميين بالتوقيفات والمحاكمات، ويبدد لدى السلطة ما ترى فيه مؤامرة تطل برأسها من بوابة وسائل الإعلام وتصب في خدمة لوبيات مختلفة سياسية أو مالية واجتماعية، محلية وخارجية.
من حق الدولة/السلطة أن ترفض أيّ دور سياسي لأيّ هيكل نقابي أو اجتماعي وأن تطلب من الجميع التحرك في مربعه، لكن تحركها باتجاه المؤسسات التمثيلية للإعلاميين سيتيح لها فرص التهدئة وتقليل قائمة الخصوم، والأهم توفير مناخ لتقديم صورة حقيقية عن محاولات النهوض المختلفة التي تقوم بها بدلا من تداول الأخبار السيئة، والتي تعنى بزوايا ثانوية يفترض أن تغلق سريعا، فهي لا تفيد أحدا.
هناك معارك حقيقية تخوضها السلطة حاليا وتحتاج فيها إلى الإعلام، وخاصة المعركة الهادفة إلى تفكيك لوبيات الفساد. وهي لن تطلب من أحد أن يصفق لها أو يمدح شيئا لا يلمسه، هي فقط تفتح قنوات التواصل وتقدم المعلومة في أسرع وقت عبر نقاط إعلامية تقوم بها كل وزارة أو جهة تريد أن تشرك الناس في نجاحاتها.
صحيح أن تقديم المعلومة ستتبعه التساؤلات والاستفسارات والتشكيك أحيانا، وهذا أمر مفهوم لدى الإعلام الذي يريد أن يتثبت مما يحصل عليه من مصادر مختلفة، وهذا حقه وواجبه، لكن الدولة ستكون قد قامت بواجبها كذلك وقدمت المعلومة في وقتها، ولا يمكن لأحد أن يزايد عليها أو يتهمها بالغموض أو التكتم أو تهميش الإعلام.
حالة البرود الحالية لا تخدم أحدا، وهي تعطي الفرصة للتأويلات والتسريبات والتضخيم السلبي للتفاصيل، وهو أمر لا يكفي معه أن يظهر الرئيس سعيد في كل مرة ليرد عليه في كلمة رسمية موجهة للتونسيين.
سيكون من المهم أن تفعّل الوزارات دور الملحقين الصحافيين وتعطيهم المعلومة الواضحة ليجيبوا على تساؤلات الصحافيين ويكونوا سباقين في تقديم الأرقام والتفاصيل والخطط عن الوزارات بدل أن تتسرب إلى مواقع التواصل ويتم استثمارها سلبيا مع أن الوزارة يمكنها أن تقدمها بشكل يظهر جهود التطوير والتحسين، وتقارن بين ما كان وبين ما هو واقع وتقدم توقعاتها المنطقية لما هو قادم.
لو تفتح الوزارات والإدارات بابها للصحافيين وتسهل مهامهم وتتعاون معهم ستحصل على تفاصيل هي نفسها لا تعرفها، وقد يقودونها إلى الكشف عن شبكات الفساد والاحتكار والتلاعب بالمال العام. ما لا تحصل عليه بتقارير الإدارة “المتضامنة” قد تحصل عليه بجهود الصحافيين الاستقصائيين. فقط يختفي سوء الفهم، واستبطان أن الصحافي بالضرورة هو خصم المسؤول الذي عليه أن يتجهز دائما للدفاع عن برامجه وخططه، وأن يعترف بالخطأ إذا حصل تقصير أو تجاوز منه أو من العاملين في مجاله.
تلافي العمل مع الإعلام خوفا من أن تخرج معلومة لا تخدم المسؤول أو تتسبب في إقالته سيفسح المجال لفبركة الأخبار ونشر الإشاعات، وهو ما يتحكم الآن في المشهد، من ذلك إشاعة إقالة بعض الولاة (المحافظين) التي سرت سريعا واعتمدتها وسائل الإعلام ليُكتشف لاحقا أنها غير موجودة. لو كان للإعلامي فرص التأكد منها من جهة رسمية ترفع السماعة أو ترد على الاستفسارات التي توجه لها، لتم تكذيب الإشاعة في وقتها.
لكن تظل هناك معركة مشتركة يمكن أن تلتقي فيها السلطة والإعلام، ولو مؤقتا، وهي تحرير وسائل الإعلام من سيطرة ظاهرة المحللين والمعلقين المقحمين على المشهد إقحاما، والذين يدفعون نحو التهويل والتضخيم والتشكيك في كل شيء، والأسوأ هو الدفع نحو الفوضى، مثلما يحصل مع البرامج الرياضية على الفضائيات الخاصة.
برامج تصب الزيت على النار وتشحذ غضب الجماهير عبر خطاب مناطقي وفئوي تحريضي، وإحدى نتائجها كانت الفوضى التي حفت بمقابلة دربي العاصمة الأحد الماضي، وما تخللها من عنف.
حين يتعلق الأمر بالاستقرار من حق الدولة أن تتدخل، وتطبق القانون مع مراعاة التراكم التاريخي لأزمات الرياضة والإعلام الرياضي وسيطرة الولاءات وأجندات الأندية. فجماهير الكرة ضحية هي أيضا.