أوروبا

الأمن الاجتماعي: تحدي اليسار الفرنسي الجديد

وهكذا تحولت الانتخابات الأوروبية الفرنسية إلى مساءلة وطنية، وهكذا طرح البعض سؤال: «هل أحرق ماكرون نفسه وأحرق البلد معه؟».
من يستطلع التاريخ لا يمكنه أن يتفاجأ من واقع أعقد من أن تصفه بمجرد «تصويت الغضب»، فالواقعة ذاتها – وإن في إطار مختلف وبكثافة أقل – عاشتها الجمعية الوطنية الفرنسية لأول مرة قبل أربعين عاما زمن حكومة التعايش بين جاك شيراك وليونيل جوسبان، ثم أعقبها تعايش ثان بين إدوارد بلادور وفرانسوا ميتران، ثم ثالث بين ليونيل جوسبان وجاك شيراك .

ما ننساه هو أن المشهد الانتخابي الفرنسي الحالي غير مسبوق وكلاسيكي معا. غير مسبوق لأننا لم نشهد أبدا نواباً من أقصى اليمين بهذه الكثافة في البرلمان الفرنسي، لكنه كلاسيكي أيضا لأن محطات تاريخية من صعود اليمين المتطرف في فرنسا مسجلة في ذاكرة التاريخ. فقد شهدت سنة 1986 مثلا، وكانت من سنوات التعايش بين فرانسوا ميتران وجاك شيراك، دخول اليمين الأقصى إلى الجمعية الوطنية بـ35 مقعدا، كما ساهمت في السنة ذاتها أصوات اليمين الأقصى في انتخاب عمدة مدينة مارسيليا جان كلود جودان، كما عايشت مدينة ليون سنة 1992 تلك «الضجة» التي أحدثها انتخاب النائب اليميني التقليدي الكلاسيكي (من حزب التجمع من أجل الديمقراطية الفرنسية آنذاك) شارل ميون على رأس جهة «ليون رون ألب» بدعم من أصوات أقصى اليمين، في ما سيشتهر بتسمية «التحالف مع الجبهة الوطنية»، تشكيلة جان ماري لو بان حينها. ليس اليمين الأقصى الفرنسي حاضرا في المشهد السياسي الفرنسي فقط، بل حتى – منذ زمن بعيد وإن بصورة متذبذبة – داخل هيئاته المؤسساتية، وهذا يطرح إشكالية أوسع مدى من الحالة الفرنسية ذاتها، تنعكس حاليا على الواقع الأوروبي بامتياز، وهي كيف يمكن استيعاب الأحزاب المتطرفة في البرلمانات؟ على هذا الاعتبار، هناك من سيقول إن الطبقة السياسية الفرنسية التقليدية قد تركت الحبل على الغارب لكونها تركت  أحزاب الأقصى تنمو على الأطراف مما زادها تطرفا، فلم يقع اعتماد نظام التمثيل النسبي المفترض منه استيعاب الأحزاب الأقل تمثيلا، إلا مرة واحدة في فرنسا سنة 1986. هذا التفسير في محله ولكنه لا يكفي.
ثمة محور أساسي يرى كثيرون من دون تجرؤ إلى إباحة أن اليسار أضاع معه فرصة ثمينة للمراجعة وهو المحور الأمني. مسألة وضع اليسار الفرنسي – التي تفاقمه الظروف الحالية – بقيت مسألة معلقة منذ سنين إن لم نقل منذ ظهور اليسار نفسه. وقد زادت حدتها بعدم اكتمال ما يسمى بـ»مشروع مجتمع»، أو بعباراتنا الحديثة «المشروع المجتمعي»، وهو الصرح الذي يؤسس عليه البنيان الفكري لكل تشكيلة سياسية. إن سألت مناضلا أو متعاطفا مع اليسار الفرنسي عن المحاور المفصلية التي تحدد تشكيلته السياسية سيحدثك بالتأكيد عن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، سيحدثك عن رفع الأجور ووجوب استقبال الوافدين الجدد بكرامة، لكنه لن يحدثك عن الظروف الموضوعية التي تسمح بتجسيد هذه المحاور وإنجاحها على المدى البعيد .وعندما نتحدث عن «الأمن» هنا لا نتحدث عن مجرد نشر قوى أمنية من عناصر الشرطة ومكافحة الشغب عند الضرورة، فقوات الردع الأمني تشكل الملاذ الأخير عند فشل اعتماد الركيزة الأساسية لكل مشروع أمني، وهي ركيزة الأمن الاجتماعي الذي باتت تغيبها العقيدة اليسارية اصلا. عندها، نعود إلى عمق المسألة، مسألة البحث في الجوانب المؤسسة للأمن الاجتماعي، ونعني هنا المدرسة، التشغيل، والرفاه. هذه الثلاثية من أدبيات الجبهة الشعبية الأصلية التي أسسها ليون بلوم، والتي اشتهرت في سنة 1936 بالإجازة المدفوعة. كل الرهان المطروح أمام تحالف اليسار الجديد في فرنسا تقديم مصداقية تمكن الجبهة الشعبية فعلا من تجسيد هذه الثلاثية التي تؤمن بها فعلا، بل تتشبث بها، وإلا لما اختارت لنفسها مسمى «الجبهة الشعبية الجديدة».
لكن ثمة شرط أساسي لن تتم من دونه ولا فرصة نجاح، وهو فهم أن الأمن الاجتماعي الذي توفره هذه الثلاثية لن يتحقق، من دون شروط صرامة تدخل في صميم الحسابات، أن قوة السلطة تمر عبر صرامة ردع ضرورية عند الإخلال بالتماسك الاجتماعي، فلن يكتمل الأمن الاجتماعي، من دون إحاطة بكل جوانب المسألة الأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى