في ضوء معطيات المشهد الليبي ما بعد سقوط نظام القذافي، دخلت الدولة الليبية في أزمة شديدة التعقيد والتداخل، نتيجة غياب النضج الوطني والمؤسسي للنخب السياسية التي تولت إدارة الشأن العام ورسم خطط سيره، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام أطراف دولية وإقليمية للتدخل في الشأن الليبي، وغدت تدخلاتهما تصلّب مواقف الأطراف المحلية الليبية التي لم تجد الأطراف الليبية المتباينة من حيلة من خيار سوى ركوب موجة التدخلات، دون التحكم في مساراتها، وتقاطعات القوى الخارجية فيها وافتراقها. مما أدى إلى عرقلة الحّل السياسي السلمي وشّله. والنتيجة لهذا التجاذب والصراع المحموم مزيداً من تعقيد المشهد الأمني والسياسي.
وبرغم كل المساعٍ والمبادرات السياسية في تقديم تصورات وخرائط لتقاسم السلطة بين الفرقاء الليبيين، إلا أنها لم تفلح في تحقيق أي تقدم يذكر في مسار حل الأزمة القائمة، ولم يكتب للتهدئة، ووقف إطلاق النار بين طرفي النزاع الليبي حياة، إلا مع الجهود الأممية الأخيرة، والحضور الأمريكي الفاعل، والتي انبثقت عن مؤتمر جنيف أثمرت عن تسوية سياسية، تسلمت خلالها سلطة انتقالية منتخبة، تضم حكومة وحدة ومجلساً رئاسياً، مهامها بهدف إعادة توحيد مؤسسات الدولة وضمان الأمن، وقيادة البلاد حتى الانتخابات التي كان مقرر إجراؤها في ديسمبر الماضي. غير أن ذلك لا يخفي تحديات كثيرة واجهت حكومة الدبيبة في إنجاز هذا الاستحقاق.
وفي ضوء ما تقدم تسعى الورقة للإجابة على التساؤل الرئيس التالي: ما هي التحديات التي تعيق تسوية الأزمة الليبية الراهنة وتداعياتها إقليمياً على ضفتي المتوسط؟
أولاً: تشخيص الأزمة الليبية
كشفت حقبة ما بعد عام 2011، عمق الأزمة التي تعانيها الدولة الليبية، وحجم التناقضات الكامنة داخلها، والتي انفجرت مع انطلاقة ثورة 17 فبراير، أدت بمجملها إلى إيجاد هذه الانقسامات القائمة، وزيادة تحدياتها الداخلية، والتي سمحت لبعض القوى الدولية الفاعلة والإقليمية الصاعدة والطامحة باتخاذ الساحة الداخلية الليبية مسرحاً ملائماً لتصفية حساباتها الاستراتيجية المتعلقة بالموارد والنفوذ، في ظل لعبة التجاذبات الإقليمية والدولية ذات الأجندة الانتهازية، التي تسعى إلى خلق ليبيا على مقاسها، وليس مقاس المصالح الليبية الحقيقية، والتي تعود بالنفع على أمن المواطن الليبي وتنمية بناه المؤسسية والسياسية والأمنية.
وفي ضوء الصراعات السياسية والعسكرية الحادة التي يتسم بها المشهد الليبي، فإن الجهود الأممية رغم أهميتها، إلا أنها لم تنجز اختراقاً حقيقياً لجمع الفرقاء الليبيين وإنهاء الصراع بشكل تام في ضوء تحديات التدخل الإقليمي والدولي، بل تراجعت في اتجاه أثر على نحو رئيس في مقاربتها للأزمة السياسية الليبية. في وقت يبدو فيه الحسم العسكري لطرف بعيد المنال، بعدما تحول إلى حالة معقدة وممتدة، ليزيد من تعقيدات الوضع الداخلي، وما أسفر عنه من انقسامات داخل المجتمع الليبي لا تزال تبعاتها مستمرة حتى الآن، لم يقتصر أذاها على ليبيا فحسب، وإنما في محيطها المغاربي والمتوسطي.
إن الأزمة الليبية الراهنة شائكة ومتداخلة تزداد حدة وتعقيداً بفعل التعقيدات في الداخل الليبي ومحيطه الإقليمي وسياقه الدولي. ولذلك، فإن النتائج السلبية الخطيرة لاستمرار الأزمة والعواقب الوخيمة لتصاعدها، وهو ما يتطلب مضاعفة الجهود من أجل إنهائها بشكل عاجل وفوري ووضع حد لها عبر آليات التواصل المباشر بين أطراف الأزمة، مع أهمية وضرورة أن تبدي تلك الأطراف مزيداً من المرونة والتعاطي بإيجابية أكبر مع مساعيها لحل الأزمة. من دون أن يغيب عن الأذهان، أن أي حلول لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف الخارجية المؤثرة في المشهد الليبي لا طائل من ورائها. فمصر وتركيا وبلدان الخليج كالإمارات وقطر تؤدي دوراً محورياً في تحديد مستقبل ليبيا، بدعم الجماعات المحلية المتصارعة، وهي تسعى إلى الحفاظ على مصالحها وتقاسم النفوذ. وبالتالي لا يمكن توقع أن تقوم تلك القوى المعنية بدور إيجابي في هذا الموضوع ما لم تتأكد من أن ذلك يخدم مصالحها.
ثانياً: تحديات تعترض طريق الحكومة الليبية
تواجه حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا مجموعة تحديات داخلية وخارجية، من أبرزها:
- إعادة توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية
تمثل عملية توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية تحت سلطة تنفيذية واحدة أحد أهم التحديات التي تواجه الحكومة الليبية ما بعد انتهاء الصراع. إذ يعزز نجاح هذه العملية من فرص تحقيق الاستقرار والسلم الأهلي في ليبيا، وتوفير السبل الكفيلة بمنع تجدد العنف وعودة الصراع. وهو ما يتطلب لتجاوزه إرادة سياسية صلبة، واستعداداً للتنازل عن المغانم السياسية والمادية التي تم تحصيلها بفعل الاستثمار في الانقسام .
حتى كتابة هذه السطور، لم تفلح حكومة “الدبيبة” في تحقيق أي إنجاز يذكر في هذا الشأن، لاسيّما توحيد مؤسسات الجيش والشرطة تحت سلطة تنفيذية واحدة ونزع سلاح الميليشيات والجماعات المسلحة من المدن. ويعد تفكيك الميليشيات المسلحة في ليبيا التي يناهز عددها الـــ 300 مجموعة مسلحة، تحدياً كبيراً أمام الحكومة التي تعهدت في وقت سابق بإيلاء هذا الملف أولوية قصوى، خصوصاً وأنها تعد العامل الأبرز وراء تعطيل العملية السياسية وما تشكله من خطر يهدد أمن واستقرار ليبيا.
التحدي الأهم الذي سيواجه الحكومة الليبية، يتعلق بالقيادة العامة للجيش الوطني الليبي وموقع المشير خليفة حفتر في الترتيبات الجديدة، خصوصاً وأن ملف قيادة الجيش يعدّ الأهم وراء عرقلة مسار التسوية والمصالحة. ويمكن للحكومة الجديدة اتخاذ خطوات نحو حل المشكلات، إذا أظهرت إرادة متوازنة وقوية، وإلا فإنها ستفقد شرعيتها لدى المجتمع الليبي في وقت قصير.
- تحديات تعيق إنجاز المصالحة
هناك تحديات مرتبطة بالظروف والأوضاع التي نجمت عن الإطاحة بنظام القذافي، فهناك تركة كبيرة من الأحقاد والمظالم بين مكونات المجتمع الليبي، وهو ما يتطلب معالجة الشروخات الاجتماعية التي تسببت بها إفرازات الانقسام، إن من شأن إنجاز المصالحة والخروج من حالة الانقسام أن يعود بالعديد من النتائج الإيجابية على ليبيا وشعبها، ويضع حد للمعاناة النفسية والمعيشية التي يكابدها الليبيين، كما أن إنجاز المصالحة السياسية بين الفرقاء الليبيين سوف يسهم في تحقيق المصالحة الاجتماعية والتخفيف من حدة التوترات التي تسببت بها حالة الانقسام والتشظي بين أطياف المجتمع الليبي. ولن يتأتى ذلك من دون إرادة وطنية تتجاوز الحسابات الضيقة، بل والأهم من ذلك التحرر من ضغوط القوى الخارجية وإملاءاتها، وبدون ذلك لا يمكن للعملية السياسية أن تتقدم باتجاه تحقيق المصالحة الوطنية .
- عقبات تعترض طريق إجراء الاستحقاق الانتخابي
تعد الانتخابات مخرجاً لمعالجة الشروخ السياسية والاجتماعية، بيد أن إجراء الانتخابات يفترض أن تجري بعد حل هذه الشروخ من خلال التسويات السياسية والمجتمعية وغيرها. فإجراء الانتخابات من دون حل هذه القضايا، قد تفاقمها، كما تبيّن في حالات عديدة. وعلى الرغم من الهواجس الكبيرة التي تحيط بالاستعداد لإجراء الانتخابات في ليبيا، إلا أن المخاوف والآثار الكارثية المترتبة على تأجيلها، أكبر بكثير مما يعتبرها البعض مجازفة كبيرة بإقامتها، وهو ما يجعل احتمالية انفجار الأوضاع حتى تنظيم الانتخابات أمراً محتملاً.
تبقى المشكلة الجوهرية في أن نخباً نافذة في المشهد الليبي تخشى من تنظيم الانتخابات في موعدها وما ستفرزه نتائجها، مما يجعل احتمالية استثمار أي ارتباك أو أزمة فرصة كبيرة لإفشال العملية الانتخابية برمتها. إضافة إلى المخاوف من أن تتحول هذه الانتخابات من وسيلة لتجاوز هذه الأزمة إلى أداة لتكريسها وربما تعميقها.
تمثل الخلافات حول القاعدة الدستورية والقانونية التي سوف تجري الانتخابات وفقها، عقبة في طريق الاستحقاق الانتخابي. فقد آثيرت حولها الكثير من القضايا والمسائل الجدلية التي قد تؤثر في تحقيق أهداف ومقاصد الاستحقاق الانتخابي من بينها التوقيت الأفضل لإجراء الانتخابات. فقد طرحت فكرة تأجيلها، مع وجود محاولات أخرى لعرقلتها، وتبقى الإشارة هنا إلى مسألة ذات علاقة بمسألة توقيت الانتخابات وهي الخاصة بأسبقية إجراء الانتخابات البرلمانية وإن كانت الخلافات بشأنها أقل حدة. إلا أن أبرزها تركزت حول موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وبرزت نقاط خلافية تتعلق بانتخاب الرئيس، فمجلس النواب يدفع باتجاه نحو انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، ليتمتع بصلاحيات واسعة، بينما يدفع المجلس الأعلى للدولة أن يتولى البرلمان عملية انتخاب الرئيس الذي ستكون له صلاحيات محدودة تحت ذريعة منع عودة الدكتاتورية.
يبدو أن إن الهدف من إثارة مثل هذه المسائل الخلافية والدفع بها إلى واجهة السجال السياسي لا تخرج عن المناورات السياسية التي تستهدف وضع المزيد من العراقيل للحؤول دون تهيئة الأجواء الملائمة لتنظيم الانتخابات في موعدها في نهاية ديسمبر 2021. إضافة إلى أن هناك أطراف عربية وإقليمية لا تريد الانتخابات والمصالحة الوطنية الليبية النجاح.
- تحدي العامل الخارجي
لا شك أن العامل الخارجي كان له الدور الرئيسي في صياغة المشهد الليبي ببيئته الاقتصادية والسياسية والأمنية المنكشفة والتابعة، وأتاح له اللعب على تناقضات الأطراف المنقسمة والمتصارعة للمضي في تنفيذ مشاريعه السياسية وفي خلق وقائع جديدة على الأرض. حيث لم تعد أطراف المعادلة السياسية الليبية، في ظل انقسامها قادرة على إدارة علاقاتها وتجاوز خلافاتها بصورة مباشرة، الأمر الذي عرّض البلاد لضغوط وتأثيرات الأطراف الخارجية الساعية لتحقيق مصالحها، حتى لو كان ذلك على حساب الشعب الليبي ومصالحه الوطنية العليا.
لذلك، تواجه الحكومة الجديدة تحديات عدة، في مقدمتها تحرر الفرقاء الليبيين من ضغوط وتأثير القوى الخارجية المؤثرة في الشأن الداخلي الليبي. ومن دون ذلك لا يمكن للحكومة الجديدة أن تتقدم باتجاه تحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا، طالما تلعب التدخلات الخارجية على وتر المناطقية والجهوية وتغذية الخلافات بين مناطق وأخرى بما يحول وأي جهود نحو مصالحة وطنية، ونزع فتيل الخلافات والتوترات بين الفرقاء الليبيين.
يبقى الأمر مرهوناً بالإرادة السياسية للفرقاء الليبيين، ومدى جديتهم في تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة وإبداء المرونة الكافية في التعاطي مع الملفات الشائكة وتجاوز العقبات التي قد تعرقل التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، والأمر كذلك متعلق بجدية المجتمع الدولي خصوصاً القوى الدولية الفاعلة في المشهد الليبي لتعزيز الدور الأممي، الذي تقوده الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتصويبه نحو كبح نفوذ وتدخلات القوى الإقليمية والدولية، كتركيا، ومصر والإمارات وقطر، وروسيا وفرنسا وإيطاليا، بحيث يذهب الليبيون إلى تسوية شاملة تُنهي حالة الفوضى وعدم الاستقرار الذي تعيش البلاد على وقعها منذ العام 2011 .
وتأتي مسألة خروج القوات الأجنبية البالغ عددهم 20 ألف عنصر مسلح، قضية مهمة أخرى للحكومة الليبية الجديدة، ومن أهم التحديات التي سوف تواجهها. خصوصاً وقد انتهت المهلة المحددة دون أن تتمكن اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5)، الناتجة عن اتفاق 25 أكتوبر 2020، من إجبار المقاتلين الأجانب على مغادرة الأراضي الليبية، وهو ما ينبئ بإمكانية عودة الصراع المسلح.
برغم الدعم الكبير المتوقع من طرف الأمم المتحدة، إلا أنها قد تسهم في عرقلة عمل الحكومة الليبية الجديدة، خصوصاً بعدما فرضت البعثة الأممية قاعدة تقسيم المناصب السياسية على الأقاليم الليبية الثلاثة (طرابلس الغرب، برقة، فزان)، وهو ما يصّعب من مهمة الحكومة في سياق تعدً فيه المحاصصة والترضيات السياسية والقبلية والجهوية عامل الفرز الأهم. برغم إعلان رئيس الحكومة “الدبيبة” أن خياره سيكون التعويل على التكنوقراط.
تعد الانتخابات الوسيلة الأنجع في الطريق نحو الديمقراطية الحديثة. إذ لا يمكن تصور وجود الديمقراطية في مجتمع ما من دون انتخابات دورية، وهذه الآلية تستلزم شروطاً سياسية واجتماعية وثقافية كي تكون الانتخابات وما تفرزه من نتائج معبرة حقيقية عن مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، فتعمل على وصول الحكام إلى السلطة وتجدد شرعيتها دورياً استناداً إلى الإرادة الشعبية من خلال الثقة التي يمنحها الناخبون إلى الحكام فيها. كما تعد الانتخابات الديمقراطية أيضاً أداة لمحاسبتهم ومساءلتهم؛ ففشل الحكام في تنفيذ وعودهم الانتخابية يدفع ناخبيهم إلى عدم انتخابهم مرة أخرى.
في المقابل، فالانتخابات ليست شرطاً كافياً للديمقراطية، فهناك بلدان كثيرة تطبق نظاماً انتخابياً والممارسة الديمقراطية فيها ليست سليمة أو معافاة، فالديمقراطية نظام وممارسة وثقافة في آنٍ معاً. فحيث تمارس الانتخابات لا تكون الحياة الديمقراطية بالمعنى الحقيقي ما لم تقترن بثقافة ديمقراطية واسعة ومترسخة بين الناس، والديمقراطية لا تكتمل عناصرها إلا بوجود ضوابط تضمن حيادية الانتخابات، بحيث يكون التمثيل الشعبي صحيحاً وصادقاً.
وهذه الضوابط لابُد من أن تشمل توافر أخلاقيات معينة لدى الناخب، منها التعفف والتجرد والتزام سائر قيم الديمقراطية، كما لا بد من أن تشمل النصوص القانونية لضبط الإنفاق الانتخابي، وتنظيم عمل وسائل الإعلام، بحيث يكون منصفاً وعادلاً حيال المتنافسين في المعركة الانتخابية.
كانت الانتخابات التشريعية في يوليو 2012 بمنزلة نجاح كبير على مستوى التنظيم والمشاركة التي بلغت نسبتها 61،58 من الناخبين، فقد أسهمت سرعة تنظيم تلك الانتخابات وسلامة إجراءاتها وسهولتها، وبشهادة المراقبين الدوليين والعرب والمحليين على حد سواء، في رفع سقف التوقعات والتفاؤل بالتحول ما بعد الثورة. بالقول أن ليبيا باتت مقبلة على عصر جديد بما يؤذن ببزوغ مستقبل ديمقراطي واعد، يسود فيه الحريات الفردية والرفاهية الاقتصادية والمشاركة السياسية. غير أن هذه الانتخابات كانت بمثابة ضربة قاسية لمسيرة الانتقال الديمقراطي في ليبيا، بدلاً من أن تكون حجر الأساس لضمان استمرارية المؤسسات السياسية وشرعيتها.
وعلى الرغم من أن انتخابات 2012 قدمت بأنها تنافساً بين كتلتين رئيستين، واحدة يتزعمها “تحالف القوى الوطنية”، والأخرى يقودها “الإخوان المسلمون” فقد أنتج الشرخ المجتمعي بين التيار العلماني والتيار الإسلامي اصطفافات جديدة طفت إلى واجهة المشهد السياسي، إلا أنها كانت في حقيقة الأمر تنافساً محموماً وسباقاً على المصالح والنفوذ والتأثير بين ممثلي القبائل والمناطق والمدن. حتى صار التنافس الانتخابي والظفر بها يشكّلان المفتاح الذي يؤدي إلى الحصول على أغلبية الليبيين لكسب السلطة والسيطرة على المؤسسات السياسية والتحكم فيها. وباتت المواقع المؤسسية من وجهة نظر النخب السياسية الليبية وسيلة للوصول إلى الموارد المالية والإفادة منها لمجتمعاتها المحلية.
وتشير العديد من دراسات الانتخابات التي أجريت عقب النزاعات المسلحة، أن التعجيل بإجراء الانتخابات قبل تحقيق نزع أسلحة الأطراف المتصارعة وإدماجهم في المؤسسات العسكرية والمدنية، يقود إلى احتمال عودة الصراع مجدداً. ففي غياب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية القادرة على القيام بمهماتها، يمكن أن تفرز الانتخابات التي تجري بعد انتهاء الصراع، ديمقراطية مشوّهة.
يجب التذكير هنا إلى وجود عدد من العوامل التي تقلل المخاطر المرتبطة بإجراء الانتخابات بعد انتهاء الصراع مباشرة، من أهمها النصر الحاسم الذي يتحقق لأحد الطرفين خلال الصراع، والتخلي عن العنف وتشارك السلطة، ونشأة مؤسسات سياسية وإدارية وقضائية قوية، ووجود قوات حفظ السلام الدولية.
لا شك أن تحقق النصر الحاسم لأحد طرفي الصراع من شأنه أن يمنع الطرف الآخر من العودة إلى العنف في حال عدم نجاحه في الانتخابات، وذلك لافتقاده القدرات اللازمة لذلك، كذلك فإن عملية التخلي عن العنف من جانب طرف أو كل الأطراف أو انضمامهم إلى القوات المسلحة الوطنية من الممكن أن تقلص مخاطر إجراء الانتخابات مبكراً.
برغم من تشرذم الجسم السياسي وتمزقه على النحو المؤلم، فلم تأتي انتخابات مجلس النواب في يوليو 2014 بأي جديد، سوى أنها كشفت عن عزوف الشعب الليبي عن المشاركة في العملية الانتخابية، فأظهر الشعب نسبة إقبال متدنية كنوع من الاحتجاج على العملية السياسية، مقارنة بانتخاب المؤتمر الوطني العام حيث بلغ عدد المقترعين نحو 1.7 مليون في انتخابات 2012، بينما لم تتعد 650 ألفاً في انتخابات مجلس النواب .
لقد سعت الأمم المتحدة بجهودها الدبلوماسية إلى عقد سلسلة طويلة من المباحثات لجمع الفرقاء الليبيين لإنهاء الأزمة القائمة. ولم تنجح كل المساعي والمبادرات من مختلف المشارب والتوجهات السياسية في إحراز أي تقدم يذكر في إيجاد حلول للوضع السياسي المتأزم، بدءاً من الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات المغربية في ديسمبر2015، مروراً بتونس فبرلين، ثم جنيف التي لم تكن كسابقاتها، فقد نجحت في جمع الأطراف الليبية، بعد أن دفعت البعثة الأمميّة أطراف النزاع الليبي إلى الحوار بدعم إقليمي ودولي. حيث شهدت ليبيا انفراجة في خط المقاربة أثمرت عن تسوية سياسية، تسلمت خلالها سلطة انتقالية منتخبة، تضم حكومة وحدة ومجلساً رئاسياً، مهامها لقيادة البلاد إلى انتخابات برلمانية ورئاسية خلال سنة كحد أقصى.
يعد إجراء الاستحقاق الانتخابي المزمع عقده في 24 ديسمبر 2021، وفقاً لخارطة الطريق المنبثقة عن مخرجات الحوار السياسي والمتوافق بشأنها دولياً، أهم النقاط الرئيسية المنوطة بالحكومة الليبية إنجازها، وثمة إجماع بين كافة الأطراف الدولية والإقليمية، وفقاً للتصريحات المعلنة، على أهمية إجراء الانتخابات في موعدها، باعتبار أن الانتخابات نقطة انطلاق نحو تحقيق الوحدة الوطنية، والتوافق الوطني، والحيلولة دون أن تتحول إلى سبب جديد من أسباب المواجهة والصراع.
على الرغم من الهواجس الكبيرة التي تحيط بالاستعداد لإجراء الانتخابات في ليبيا، إلا أن المخاوف والآثار الكارثية المترتبة على تأجيل الانتخابات أكبر بكثير مما يعتبرها البعض مجازفة كبيرة بإقامتها. وتبقى المشكلة الجوهرية في أن نخباً نافذة من الطرفين تخشى من تنظيم الانتخابات وما ستفرزه نتائجها، مما يجعل احتمالية استثمار أي ارتباك أو أزمة فرصة كبيرة لإفشال العملية الانتخابية برمتها. ناهيك عن أن هناك اطراف إقليمية عربية ودولية لا تريد إجراء الانتخابات ولا المصالحة الوطنية الليبية النجاح.
إن الرهان يبقى بالأساس على الأطراف الليبية، واعتبار الانتخابات نقطة انطلاق لاستكمال المسار الانتخابي حتى نهاية حلقاته والتي تنتهي بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ديسمبر المقبل، وهي آلية غير عنيفة يمكن من خلالها تسوية الصراعات السياسية في ليبيا سلمياً ودعم عملية الانتقال الديمقراطي، والحيلولة دون تجدد أسباب المواجهة والصراع. وفي ظل غياب تصور توافقي وطني لمرحلة ما بعد الانتخابات وفجوة عدم الثقة يمثلان تحدياً جوهرياً ليس فقط لمرحلة الانتخابات وتأكيد نزاهتها وحرية التنافس والحق في الاختيار الحر، وغيرها من شروط أساسية لنجاح العملية الديمقراطية، بل أيضاً لمرحلة ما بعد الانتخابات وانفجار الخلافات مما ينبئ بالوصول إلى مرحلة ربما أسوأ مما كان عليه الوضع السابق.
رابعاً: مقترحات للخروج من الأزمة الليبية الراهنة
كمساهمة مستقلة ومتواضعة تساعد في فك تفاصيل الخلافات البينية وتؤسس إلى حل برؤية وطنية واسعة تجنب البلاد أي هزات مستقبلية ويساعد في إيجاد حلول مهمة وبعيدة المدى نضع بين أيدي المتحاورين بعض المقترحات التي يمكن تقديمها لتعزيز فرص نجاح الاتفاق السياسي والخروج بليبيا من أزمتها الراهنة، وتتمثل في الآتي:
- اعتماد الحوار والتوافق خياراً استراتيجياً من قبل القوى الليبية كافة، لا أن يكون خياراً تكتيكياً مرحلياً تفرضه متغيرات ومصالح آنية ضيقة.
- اعتماد الانتخابات المقبلة كنقطة انطلاق نحو تحقيق الوحدة الوطنية والتوافق الوطني وإعادة ترتيب البيت الليبي، والحيلولة دون أن تتحول من نقطة التقاء إلى نقطة تزيد من مساحة التباعد والخلاف.
- وقف التدخلات الخارجية السلبية في الشأن الداخلي الليبي، والتوقف عن ممارسة الضغوط على الأطراف الليبية والتي من شأنها إعاقة جهود المصالحة وإدامة حالة الخلاف والانقسام.
- الضغط على الأطراف الخارجية لوقف تدخلاتها السلبية ومحاولاتها وضع العراقيل أمام إجراء الاستحقاق الانتخابي المقبل.
- مشاركة القوى الدولية الفاعلة في الإشراف على سير العملية الانتخابية البرلمانية والرئاسية، بما يضمن نزاهتها وشفافيتها، ويحول دون أي عملية تزوير لإرادة الناخبين.
- استكمال المسار الانتخابي حتى نهاية حلقاته، والتي تنتهي بإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية على أسس ديمقراطية، بحيث ينضوي في إطارها جميع قوى الشعب الليبي.
- قبول نتائج الانتخابات واحترام إرادة الشعب الليبي، في اختيار قياداته، وتجنب التعامل بازدواجية مع إرادة الناخبين ونتائج العملية الديمقراطية.
- زيادة الجهود من أجل إنجاح الاتفاق السياسي، الذي حظيا برعاية أممية، ودعم المجتمع الدولي، والضغط على الأطراف الليبية المُعطلة للاتفاق، وكذلك على الأطراف الدولية والإقليمية الداعمة لتلك الأطراف، للقبول بصورة فعلية بالاتفاق. لذلك، ينبغي أن تتعمق جهود المصالحة وتتوسع خلال المرحلة القادمة، لاغتنام الفرصة بهدف تعزيز القدرات الليبية على تحقيق المصالحة السياسية والاجتماعية على كل المستويات. فالفرصة السانحة لمثل هذه الجهود قد لا تبقى متاحة إلى أجل غير مسمى.
خاتمة
برغم أهمية التوافق الدولي والإقليمي حول حل نهائي للأزمة الليبية، وتهيئة الأجواء المناسبة لتنظيم الانتخابات في موعدها المقرر في ديسمبر 2021، مع ضرورة مغادرة القوات الأجنبية كامل التراب الليبي، غير أن عدم قدرة الحكومة الليبية على التصدي للتحديات السياسية والأمنية والاجتماعية، وعدم تحقيق أي خطوات في عملية المصالحة ضمن الحيز الزمني الممنوح لها وفق خارطة الطريق قد أسهم وتعثر جهود التسوية الشاملة وعرقلة الاستحقاق الانتخابي الليبي.
فمن المرجح أن تتصاعد الضغوط الدولية بفرض عقوبات صارمة على الأطراف الخارجية وكذلك الأطراف الليبية المعرقلة للتسوية، والالتزام بخارطة الطريق، لكن ذلك يحتاج إلى ضمانات وازنة من القوى الفاعلة في المنظومة الدولية كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا حتى يمكن كبح التدخلات الخارجية التي تغذي الفرقة بين الليبيين.
وعليه، فإن الوضع السياسي في ليبيا يبقى مفتوحاً على عدة احتمالات، وذلك بالنظر إلى تمسك جميع الأطراف بمواقفها وتوجهاتها وعدم وجود أي بادرة لتنازل أي طرف عن مقاربته ورؤيته لحل الأزمة السياسية في ليبيا، لا شك إن توفر إرادة حقيقية لدى الفرقاء الليبيين لتحقيق المصالحة وحشد الجهود والطاقات لمواجهة الأخطار التي تستهدف الدولة الليبية، كفيل بأن يدلل العقبات، ويفتح آفاقاً رحبة أمام دخول مرحلة جديدة من التعاون وتكامل الأدوار، وإعادة بناء المؤسسات وتحقيق الوحدة الوطنية والخروج من حالة الانقسام إلى غير رجعة. إن الرهان بالأساس يظل على عاتق الأطراف الليبية، وهي المستفيد الأول من الاتفاق السياسي، وهي المتضرر الأكبر من حالة التشرذم والصراع واستنزاف طاقاتها البشرية ومواردها المالية.