وصلت أعداد العمال الفلسطينيين في (إسرائيل) قبل أحداث السابع من أكتوبر، إلى نحو مئتي ألف عامل، بما جعلهم يشكلون أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد في مناطق السلطة الوطنية، ومع إغلاق فرص العمل أمامهم تفاقمت الأزمة الاقتصادية بصورة غير مسبوقة في فلسطين، ولم يكن ذلك الإجراء الوحيد الذي اتخذته إسرائيل في سياسة خنق الفلسطينيين اقتصاديا، حيث تزامن ذلك مع التوقف، أو المماطلة في توريد مستحقات السلطة من الرسوم والضرائب، في آلية أموال المقاصة المطبقة منذ تأسيس السلطة بعد اتفاقية أوسلو، الأمر الذي أدى إلى عجز كبير في قدرة السلطة على الوفاء برواتب الموظفين، الأمر الذي أدى إلى تراجع كبير وموجع في الحركة التجارية، تمدد بين مختلف القطاعات الاقتصادية.
يعيش الفلسطينيون اليوم، في فوضى اقتصادية مع وجود ثلاث عملات في التداول اليومي (الدولار الأمريكي، والشيكل الإسرائيلي، والدينار الأردني)، بينما تتغيب العملة الفلسطينية، وفي الأشهر الأخيرة وبعد رفض إسرائيل استقبال الشيكل من البنوك الفلسطينية تكدست العملة الإسرائيلية، لدرجة دفعت البنوك الفلسطينية إلى وقف عملة الشيكل، فتكدست في البنوك الفلسطينية ليعلن معظمها وقف إيداعات الشيكل المتراكمة في السوق الفلسطيني، والتأثير على قدرة الفلسطينيين، المحدودة أصلا، على الاستيراد وإجراء المعاملات الاقتصادية مع الخارج. تأخذ الأزمة منحى كارثيا مع تراجع الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، خاصة من الدول العربية، سواء لوجود قناعة بتفشي الفساد المالي والإداري بصورة مقلقة، أو توظيف المساعدات كأداة ضغط على السلطة لدفعها إلى مواقف سياسية بعينها، ومع واقع الانقسام والصراعات الدائرة في السلطة، لا يبدو أن حزمة عربية من أجل مواجهة الأزمة الاقتصادية، واردة في المدى المنظور.
تصميم العلاقة الاقتصادية بين السلطة الوطنية و(إسرائيل) كان مجحفا من البداية، وأحد أدوات السيطرة التي وظفت للإبقاء على المناطق الفلسطينية في حالة من العجز وفقدان القدرة على المبادرة، وكانت سياسة السلطة في التعيينات الحكومية ترسي نموذجا اقتصاديا مشوها، يقوض الطاقات الإنتاجية الفلسطينية التي تطورت في عقود من الاحتلال وعكست قدرة استثنائية للشعب الفلسطيني على التنظيم الذاتي وتفعيل قوى المجتمع المدني.
ما تعرفه إسرائيل جيدا، وتدركه بوضوح، أن الأوضاع الاقتصادية والحيلولة بين الشعب الفلسطيني وتحقيق مستويات الحياة الكريمة والمستقرة، من خلال العمل والإنتاج، كان أحد الأسباب التي تغذي العدائية للوجود الإسرائيلي، الذي أخذ يتمدد في المناطق الفلسطينية من خلال حركة الاستيطان، لينافس الفلسطينيين على ما تبقى من أرضهم، في اتجاه القضم الذي يجري بدواع أمنية مختلفة في هندسة متقنة لاستفزاز الفلسطينيين، بحثا عن لحظة الصدام، التي يمكن أن تستثمر لتبرير إجراءات عملية للاستيلاء على الأرض وتفريغها من سكانها.
وزعت إسرائيل المعاناة اليومية على أكثر من خمسة ملايين فلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، وجعلت الاقتصاد الفلسطيني مرتبطًا بحبل سري معها، تغذيه بالسموم التي تمثلت في نمط استهلاكي تموله من خلال تحملها لقوة عمل مكلفة نسبيا، تأتيها من الأراضي الفلسطينية، وشجعت على وجودها وحاربت البدائل التي طرحت باستيراد العمال من بعض الدول الآسيوية، ولم تكن أمام الفلسطينيين حلول كثيرة، لأن ما يوضع على الطاولة في الأراضي الفلسطينية، يكون من مكونات إسرائيلية مباشرة أو غير مباشرة.
اقرأ أيضا| استضافة حماس في تركيا: أبعادها الجيوسياسية وتأثيراتها على العلاقات مع الغرب
الواقع الاقتصادي في فلسطين، وهيكل علاقات الإنتاج والاستهلاك يجعل الحديث عن عملية سلام تنتج دولة مستقلةً عبثا بالنسبة لإسرائيل، التي تسعى إلى توهين قدرة الدولة العربية، التي يمكن أن تشكل البديل (الاقتصادي) للفلسطينيين، فتبدو الأردن غير قادرة على بناء نموذج مستقبلي لتصبح الرافعة لـ(عمليات) الاقتصاد الفلسطيني، فالأردنيون يصطدمون بتوجهات إسرائيلية متضاربة، وتبدو الضفة الغربية التي كانت جزءا من الأردن لقرابة الأربعة عقود، أرضا مجهولةً ومعقدة أمام الأردنيين، والوضع ليس مختلفا على العلاقة بين المصريين وقطاع غزة، فلا أحد يعرف ما هي النوايا أو الخيارات المطروحة، أو على الأقل، لا أحد يتلمسها بصورة تمكنه من العمل أصلا.
في بعض الرؤى الاقتصادية تستسيغ إسرائيل وضعية الاقتصاد الفلسطيني الراهنة، وتود تحويل الفلسطينيين إلى كتل بشرية من غير مستلزمات ذلك من وجود إنساني طبيعي، بمعنى، أنها تفضل وجود قوة العمل الفلسطينية، والتغول على الموارد الفلسطينية، ولا تسعى لإزاحة الفلسطينيين من المعادلة، ولكن رؤيتها تبحث عن الفلسطيني الوظيفي المهادن، الذي يمكنه أن يحصل على الطعام ومكان صغير للنوم، والقدر المعقول من التعليم، ليكون جاهزا لخدمة الغايات الإسرائيلية، وتعزيز التنافسية في إسرائيل، أي التقدم الحثيث إلى نموذج من الفصل العنصري ونزع الإنسانية عن الفلسطينيين، وتحويلهم إلى مجموعات من السائرين نياما، الذين يذهبون إلى قراهم ومخيماتهم المحاطة بالأسوار الحديدية، ليكونوا جاهزين للعودة إلى العمل في اليوم التالي.
الحرب الاقتصادية على فلسطين هي جزء من سياسة إسرائيلية متصلة في المدى الزمني، ومنفصلة عن الأدوات الأخرى، وتكاد تذهب بالفلسطينيين إلى حالة من الاختطاف من الصورة الإنسانية، تجاه التعريف الإسرائيلي للفلسطيني الجيد الذي يعتبر موردا مسروقا مثل الأرض والمياه، وفي المقابل، تفتح إسرائيل أبواب الخروج للفلسطينيين المزعجين، وغير القابلين للترويض، وفقا لمعادلتها البعيدة، أما الدولة الفلسطينية، أو السلطة، أو أي أسلوب آخر لإدارة الفلسطينيين.
فليس، في المنظور الإسرائيلي، سوى أداة رقابة وسيطة على هذه المعادلة التي تعمقت وتغولت، بعد تراجع مفهوم دعم الصمود العربي، الذي كان يشكل البديل المعقول ليس لتمكين الفلسطينيين، ولكن لإعاقة الطموح الإسرائيلي التوسعي، ليس بالضرورة باحتلال الأرض، ولكن بإحداث حالة من التبعية تجعل من العرب بشكل عام، مجرد وصيف مطيع لشعب الله المختار. لسبب أو لآخر تحجم الدول العربية عن توفير أدوات المواجهة على المستوى الاقتصادي للفلسطينيين، ولكن عليها، أن تتأمل في النموذج القائم حاليا لتضعه في اعتباراتها عند أي حديث عن علاقات اقتصادية مستقبلية مع (إسرائيل).