بشكل من الأشكال، بدأت رئاسة جو بايدن في أيامها الأخيرة في الظهور وكأن معالم مرحلة القلق ترتسم عليها إلى حد كبير، شأن مرحلة سادت في أيام إدارة عهد الرئيس كارتر الأخيرة، على رغم الجهود الحثيثة المبذولة من جانب الفريقين الأميركيين الرئاسيين القادم والمنتهية ولايته لتجنب ذلك. عام 1981، كان قادة الثورة الإسلامية في إيران هم من أرادوا حرمان الرئيس المنتهية ولايته من أي مجد قد يحصده جراء إطلاق سراح رهائن السفارة الأميركية المحتجزين في طهران. عام 2025، يبدو أن الجاني هذه المرة هو القدر، وتعدد المصالح المتضاربة والساحات السياسية المتحركة.
قبل خمسة أيام من تنصيب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، تمكن الرئيس بايدن من الإعلان عن إبرام الاتفاق الذي طال انتظاره بين إسرائيل و”حماس” لوقف النار في غزة والإفراج عن بقية الرهائن الإسرائيليين وغيرهم من الرهائن الذين تحتجزهم حركة “حماس” منذ هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. والرئيس الأميركي بايدن كان قد استهل خطابه الوداعي الذي ألقاه من المكتب البيضاوي، بإعلان أن الفضل يعود إليه في تحقيق ذلك على رغم اعترافه بمشاركة فريق ترمب الانتقالي كضمان للاستمرارية في عمل الإدارتين ــ فإن فريق ترمب كان لديه رأي آخر في المسألة [أي في مسألة من يعود الفضل إليه].
لكن الآن، وبعد أقل من 24 ساعة على ذلك الإعلان، فإن مسألة لمن يعود الفضل في تحقيق ذلك هي مجرد مسألة نظرية، وسط مؤشرات إلى أن عجلة ذلك الاتفاق قد لا تدور حتى قبل دخوله حيز التنفيذ.
اقرأ أيضا.. مع بدء تنفيذ وقف النار.. هل ينجو أهل غزة من الموت؟
كانت الأيام الثلاثة الفاصلة بين موعد الإعلان عن الاتفاق، وموعد دخوله حيز التنفيذ حافلة بالصعوبات بالتأكيد، إذ إنها فترة تفرض بطبيعتها على الجانبين محاولة تضخيم مواقفهما في الساعات المتبقية. لذلك اتهمت إسرائيل حركة “حماس” بارتكاب انتهاكات، أثناء مواصلتها توجيه ضربات ضد أجزاء من قطاع غزة.
ولا تقل أهمية عن ذلك مسألة التمثيل، فإن التعامل مع الأنظمة الاستبدادية مهما كان نوعها دائماً ما كان أسهل من التعامل مع الأنظمة الديمقراطية. فبعد التوصل إلى ابرام الاتفاق، قد يتمكن قادة “حماس” من تنفيذه على الأرجح بصورة أو بأخرى. بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي فإن ذلك يحتاج إلى موافقة حكومته المنقسمة على نفسها. معلوم أن بنيامين نتنياهو نفسه كثيراً ما كان ينظر إليه على أنه شكل حجر العثرة أمام التوصل إلى الاتفاق منذ البداية، لكن ذلك الأمر قد يبدو مسألة شكلية [مقارنة بالعقبات الأخرى].
ولكن ذلك لا يحسب حساباً لأولئك الذين يصطفون أكثر إلى اليمين في حكومة نتنياهو، والذين يحافظون فعلياً على بقاء [تماسك] حكومته في السلطة. لم يكن تأجيل الاجتماع الذي كان من المقرر عقده صباح الخميس ليبشر بالخير. كذلك فإنه لم تكن النقطة العالقة التي أُبلغ عنها: وهي مطالبة هذا الفصيل اليميني بعدم التزام إسرائيل فعلياً المرحلة الثانية من الاتفاق المكون من ثلاث مراحل ــ أي مرحلة بدء عملية انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة ــ مما يسمح لها باستئناف الأعمال القتالية. ويمكن أن نعترف أن جميع الاتفاقات التي ينطوي تنفيذها على مراحل عادة ما تتضمن نقطة الضعف هذه، وهي أن الالتزام بها قد يكون محل نزاع، مما قد يحبط تنفيذ المرحلة التي تليها، ولكن ربما يعتبر هذا تسرعاً في التقييم.
حالياً يحتاج الاتفاق إلى ضوء أخضر من الحكومة الإسرائيلية، الذي من دونه يمكن أن يحدث أمران، أولاً أن لا يدخل وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن على مراحل حيز التنفيذ قبل نهاية فترة رئاسة بايدن، مما سيترك الرئيس بايدن من دون أي فضل يمنح له قد يعوضه سجله السلبي في التعاطي مع السياسة الخارجية، وسيعود أي فضل في إنهاء ذلك الصراع إلى الرئيس ترمب (ويمكن أن نزيد هنا في طريقنا أنه بوجود مؤشرات عن عملية جس نبض تجري مع كوريا الشمالية بالفعل، وأحاديث عن قمة مبكرة مطروحة نظرياً تجمع الرئيس ترمب مع فلاديمير بوتين، والجهود المتضافرة لإنهاء الحرب الأوكرانية من وجهة نظره، فإن ذلك كله يؤشر إلى أن ترمب ربما يتطلع إلى الظهور في مظهر صانع السلام حتى قبل وصوله الرسمي إلى البيت الأبيض).
ثانياً، خطر احتمال سقوط حكومة نتنياهو. فتلك الحكومة كانت قد وقفت على حافة الهاوية مرات عدة منذ السابع من أكتوبر 2023، بما في ذلك مباشرة بعد وقوع تلك الاعتداءات، واتضاح حجم الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي. إلا أنه في النهاية برزت حجة مفادها أن حكومة بالكاد توجه دفة إسرائيل قد ترجح كفتها على كفة حركة “حماس” وتستعيد الرهائن، مما لو كانت البلاد من دون حكومة، وهذا حال دون تداعي صفوف الحكومة فعلياً.
وكان هناك طرح آخر وهو أن نتنياهو، الذي وقعت اعتداءات السابع من أكتوبر 2023 خلال وجوده على رأس السلطة شعر بمسؤولية أن عليه هو نفسه أن يوجه عملية الرد الإسرائيلي. وقيل أيضاً إن مصالح نتنياهو الشخصية لعبت دوراً في عزمه على البقاء في السلطة، نظراً إلى أن مزيداً من الملاحقات القضائية المتعلقة بتهم الفساد الموجهة إليه قد تتعاظم بعد فقدانه حصانته كرئيس للوزراء.
لكن هذه المرة فإنه يمكن أن تسقط الحكومة، ليس فقط بسبب المعارضة في مجلس الوزراء لشروط الاتفاق الذي تُفووض عليه، بل بسبب المعارضة التي قد تنزل الشارع إذا فشلت الحكومة في تأييد ما يمكن أن يكون الفرصة الأخيرة لتأمين إطلاق سراح الرهائن. إن لعبة الشد والجذب بين الحكومة المصغرة والشعب، أكثر مما هي الحال عليه حالياً، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الاضطراب السياسي في إسرائيل طوال المدة التي قد تدوم حتى موعد إجراء الانتخابات الجديدة والفترة التي تليها حتى موعد قيام الحزب الفائز في الانتخابات بتشكيل ائتلاف حكومي جديد.
وليس من الضروري هنا التذكير بأن بداية عهد رئاسي أميركي جديد يبدو أنه مختلف بطبيعته عن كل من شغل ذلك المنصب في السابق، قد لا يكون أفضل وقت لإسرائيل لتكون من دون حكومة تدور عجلتها على ما يرام. إن حال عدم اليقين السائدة في دول الجوار ــ مثل مسألة مستقبل الدولة السورية وضعفها، وإمكانية التغيير في إيران إلى ما ستؤول إليه الأمور بخصوص آلاف السجناء المتشددين المحتجزين حالياً لدى إدارة الكرد في شمال سوريا ــ فإنها كلها تحمل في طياتها ما قد يجعل الأمور تتفاقم.
ومع ذلك يجب النظر بقدر كبير من الواقعية إلى أهمية الاتفاق بين إسرائيل وحركة “حماس”، فهذا الاتفاق الذي عُجل لإنجازه في آخر أيام عهد رئاسة جو بايدن، أكثر مما ينظر إليه حالياً. وذلك لا يتعلق بأي انتهاكات لوقف إطلاق النار التي قد تحدث بعد الأحد. فاتفاقات وقف إطلاق النار تتطلب عادة فترة طويلة قبل أن تستقر، لذلك فإن بعض الخروق المبكرة قد لا تعني بحد ذاتها الفشل، بل إن السؤال الذي من المفترض طرحه هو عن مدى التغيير الذي سيحدثه ذلك الاتفاق بالفعل، حتى ولو دخل حيز التنفيذ في الوقت المحدد والتزم به بشكل أو بآخر.
من الناحية الإنسانية، بالطبع، إن ذلك الاتفاق سيكون إيجاباً للجميع، وبالنسبة إلى كثر فإن ذلك مرضٍ وكافٍ. وسيكون المجال مفتوحاً أمام عودة الرهائن الناجين إلى ديارهم، وسيعرف الناس مصير أقاربهم وأصدقائهم. وسيعاد لم شمل العائلات الفلسطينية مع إطلاق سراح أسراهم من سجون إسرائيل.
كذلك سيسمح الاتفاق بدخول قدر أكبر من المساعدات إلى قطاع غزة، وقد يتمكن السكان السابقون من العودة إلى بيوتهم لإعادة البناء، على رغم حجم هذه المهمة الضخمة، وحتى الأموال الخليجية وحدها فإنها لن تكون كافية على رغم أنها مرتقبة. فمع تطلع الاتحاد الأوروبي إلى مهمة إعادة إعمار أوكرانيا فإن المساعدات من تلك الجهة قد تكون محدودة. في كل الأحوال علينا الترحيب بوقف الأعمال العدائية، حتى وإن جاء ذلك متأخراً أشهراً طويلة عما كان يفترض أن يكون. وحتى ولو لاحظنا أن الصراع كان قد انتهى بالفعل قبل الآن بفترة طويلة لأنه لم يكن قد تبقى كثير في قطاع غزة ليُدمر.
حتى ولو جرى الالتزام الدقيق جداً بالمراحل الثلاث لتطبيق الاتفاق (وهي فرصة تبدو ضئيلة)، فإنه لا بد من الاعتراف بأن نطاقات الاتفاق محدودة، ومن شأنها أن تترك كثيراً من الأمور من دون تغيير إلى حد كبير من ناحية التموضع الإقليمي والأوضاع الجيوسياسية. فلا تزال هناك مسألة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة وعمليات توسعتها التي يجب التعامل معها. إضافة إلى مسألة من ستوكل إليه إدارة قطاع غزة مستقبلاً (بما في ذلك حقيقة أن “حماس” ككيان لم تدمر بالكامل)، ومسألة غياب الوحدة بين الفلسطينيين، وغياب تلك الوحدة بين حركة “حماس” والسلطة الفلسطينية، مما يقلص وزنهما السياسي – على رغم أن ذلك ممكن أن يتغير.
إن الاتفاق يتعلق بحلقة بالغة الصغر فقط من واقع إقليمي أكبر بكثير ويضم [تحديات كثيرة] من سوريا وإيران وتركيا ولبنان والكرد والعراق والأردن ومصر والسعودية ودول الخليج. فكل هؤلاء كانوا قد تأثروا بصور دراماتيكية أكثر (مثل سوريا) أو أقل (مثل مصر)، جراء تداعيات أحداث السابع من أكتوبر 2023 ورد إسرائيل عليها.
هل ستتوفر لدى دونالد ترمب الإرادة أو المصلحة في العودة إلى ما كان قد اعتبره بداية مع اتفاقات إبراهيم، التي سمحت باعتراف إقليمي أوسع بإسرائيل؟ من ناحية الجوهر، قد يبدو اتفاق إسرائيل مع حركة “حماس” كمحاولة لإنهاء فصل من الأحداث أكثر مما هو إطلاق عملية تسوية جديدة. كذلك فإن الاتفاق يعكس جزءاً ضئيلاً جداً من الآمال التي كان الرئيس بايدن قد اشتهر بتغذيتها في أعقاب اعتداء السابع من أكتوبر، مشيراً إلى أن الأزمة أتاحت فرصة لصياغة سلام شامل في الشرق الأوسط. والآن، إن أمجاد مثل تلك التسوية إذا كان لا بد من التوصل إلى واحدة، يمكن أن تكون من نصيب الخليفة الذي حاول الرئيس بايدن بشدة الحيلولة دون عون.