روسيا

اتجاهات نوعية للتصنيع العسكري الروسي بعد “أرمي-2024”

أنظمة الدفاع الجوي الروسية العاملة في أوكرانيا، وخصوصاً منظومات "بانتسير" قصيرة المدى، خضعت لتطوير جذري بناء على الدروس الميدانية. وقد عرضت شركة "KBP" النسخة الأحدث من هذه المنظومة، تحت اسم "Pantsir SMD-E"، التي تم تصميمها بشكل أساسي لتوفير الحماية الجوية للمنشآت والمناطق العسكرية والإدارية والصناعية الصغيرة الحجم من الاستخدام المكثف لأسلحة الهجوم الجوي، وخصوصاً الطائرات المسيرة. 

ساهمت ضراوة المعارك الدائرة حالياً في شرق وجنوب أوكرانيا – وخصوصاً بعد امتداد تأثيرات هذه المعارك إلى “كورسك” الروسية – في جعل الأنظار على المستوى العسكري مركزة بشكل رئيسي على التطورات الميدانية هناك، وهو ما ساهم بشكل أو بآخر في عدم تسليط الضوء بشكل كافٍ على مجريات منتدى “أرمي-2024” العسكري الدولي الذي استضافته العاصمة الروسية منتصف الشهر الماضي، لكن رغم هذا الأمر، فإنَّ المنتجات الروسية التي تم عرضها خلال هذا المنتدى عكست بشكل لافت اتجاهات نوعية باتت مؤشراً للمسارات التي ستتحرك فيها الصناعات العسكرية الروسية خلال المدى المنظور.

بشكل عام، كانت معروضات المنتدى متوافقة بشكل كبير مع محورين أساسيين من المحاور التي حددتها وزارة الدفاع الروسية، كإطار أساسي يمكن من خلاله الوصول إلى الأهداف المطلوب تنفيذها من العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها موسكو في شرق وجنوب أوكرانيا مطلع العام 2022.

المحور الأول يقتضي زيادة الاعتماد بشكل أكبر على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية المتقدمة، سواء في ما يتعلق بأنظمة إدارة النيران أو المنظومات القتالية والدفاعية. المحور الثاني يرتبط ببدء استحواذ الجيش الروسي على أعداد كبيرة ونوعية من الأسلحة ذات التوجيه الدقيق، بما يشمل المنظومات الصاروخية الجوالة، والقنابل الانزلاقية الجوية، والذخائر الجوالة.

الروبوتات الأرضية تتوسع بشكل لافت في الترسانة الروسية

اختبرت موسكو خلال العمليات العسكرية في أوكرانيا العديد من الروبوتات الأرضية، سواء القتالية أو المرتبطة بمهام لوجيستية، مثل نشر الألغام أو نقل الإمدادات أو حتى إجلاء الجرحى.

ولعل من أهم المخرجات التي نتجت من هذه التجارب، والتي تم عرضها في نسخة هذا العام من منتدى “أرمي”، أول مركبة مسيرة حاملة لمدفع ميدان، وهي الأولى من نوعها عالمياً، وهي تتألف من تطوير جمع بين المركبة المجنزرة المسيرة “MTS-15” ومدفع الميدان المقطور سوفياتي المنشأ “D-30” من عيار 122 ملم، الذي يصل مداه الأقصى إلى 15 كيلومتراً، ويعدّ أكثر مدافع الميدان الروسية انتشاراً في العالم.

حقيقة الأمر أن الجمع بين كلا العنصرين في هذه المركبة مكّن القوات الروسية في الميدان من الحصول على ميزة استراتيجية كبيرة تسمح بالاستغناء بشكل كامل عن وجود عناصر المشاة في تشكيلات المدفعية – وخصوصاً في المناطق القريبة جداً من خطوط الاشتباك – إذ تم تقليل أعداد هذه العناصر إلى الحد الأدنى، واقتصر دورهم على التحكم عن بعد في هذه المركبات التي تحولت إلى ما يشبه “مدافع ذاتية الحركة” تمتلك القدرة على التحرك بشكل مرن وتنفيذ الضربات المدفعية بدقة من مسافات آمنة، ناهيك بأنها تمتلك القدرة على التغيير الآني لمواقع إطلاق النار في غضون 30 ثانية فقط، ما يعزز من الفعالية القتالية، ويقلل من فرص استهدافها بنيران المدفعية المضادة، وهي ميزة لم تكن متوفرة في تشكيلات مدفعية الميدان المقطورة التي كانت تحتاج إلى نقل المدافع المقطورة من أماكنها بمساعدة الشاحنات وعناصر المشاة.

تتّسم هذه المركبة الجديدة أيضاً بعدة ميزات تكتيكية، إذ تتزوّد بنظام تحميل وتلقيم أوتوماتيكي يمكنها من حمل وإطلاق الذخيرة من دون تدخل بشري، ما يعزز بشكل كبير من كفاءتها التشغيلية ويقلل من المخاطر التي يتعرض لها الأفراد في مناطق القتال. تبلغ الحمولة القصوى لهذه المركبة نحو 15 طناً، ما يوفر لها القدرة على حمل ذخيرة وإمدادات كافية لمهام ممتدة المدى، بسرعة قصوى تصل إلى 12 كيلومتراً، ومدى عملياتي يبلغ 120 كيلومتراً.

يمثل نظام القتال الجديد هذا قفزة كبيرة في عالم الوسائل القتالية المسيرة، إذ يجمع بين تنوع المركبة المجنزرة والقوة التدميرية للمدفعية التقليدية. ومن خلاله، أثبتت روسيا قدرتها على تكييف التقنيات العسكرية الحالية لتلبية الاحتياجات المعاصرة والمستجدة، كما برهنت أنها بدأت باستيعاب الخطوات المتسارعة التي اتخذتها كييف في تطوير القدرات الأرضية المسيرة.

ويمثل تقديم هذه المركبة غير المأهولة بالمدفعية تقدماً كبيراً في الأنظمة العسكرية المسيرة التي تستهدف في الأساس تقليل المخاطر التي يتعرض لها عناصر المشاة.

تم خلال منتدى “أرمي-2024” أيضاً عرض نماذج نوعية أخرى من المسيرات الأرضية والروبوتات، منها النسخة المسلحة من العربة غير المأهولة “NRTK Courier” المجهزة بقاذف قنابل يدوية أوتوماتيكي من نوع “AGS-17” وآلية نشر للألغام الأرضية.

هذه النسخة تم اختبارها ميدانياً في أوكرانيا في آذار/مارس الماضي، إذ تواجهت مركبتان من هذا النوع بشكل مباشر مع طائرات مسيرة أوكرانية، ما مثل أول مواجهة موثقة بين الأنظمة المسيرة الجوية والأرضية.

على المستوى التقني، باتت مركبات “Courier” منصة معيارية أساسية للأنظمة الأرضية المسيرة في الجيش الروسي، إذ يمكن تكييفها للإيفاء بكل الأدوار الميدانية، بما في ذلك المهام الهجومية واللوجيستية، ومهام نشر الألغام ونقل الجرحى، ومهام الحرب الإلكترونية. النسخة التي تم عرضها في هذا المنتدى كانت مزودة بآلية خاصة لتتبع الهدف والتهديف عليه بشكل أوتوماتيكي، ما عكس التزايد المتنامي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الأنظمة الروسية.

من الأمثلة الأخرى في هذا الصدد مركبة “karakal” المجنزرة، التي عرضتها للمرة الأولى مجموعة “روستيخ” الروسية العملاقة، وهي مخصص في الأساس لعمليات الاستطلاع المتقدم، ومهام التمويه خلال عمليات الإخلاء الطبي أو للتغطية على تحركات المشاة والقوى المدرعة، إذ تمتلك هذه العربة القادرة على حمل حمولة تزن نصف طن 4 قواذف دخانية، يمكن من خلالها نشر ستائر دخانية كبيرة وكثيفة، وهي ميزة هامة تضاف إلى الإمكانيات الأخرى المرتبطة بالمراقبة والاستطلاع، من كاميرات حرارية وأنظمة اتصالات متقدمة، تتيح التحكم في المركبة من مسافة 2 كيلومتر، وتوفر لها مدى عملياتي يصل إلى 150 كيلومتراً.

أنظمة بحرية وجوية مسيرة جديدة

شهد منتدى “أرمي-2024” تقديم المزيد من الأنظمة البحرية والجوية المسيرة روسية الصنع، إذ بدا أن توسع الهجمات الأوكرانية التي تنفذها الزوارق المسيرة في البحر الأسود وتطورها لتشمل تكتيكات تعتمد على تنفيذ هجمات مركبة تشارك فيها أعداد كبيرة من المسيرات البحرية والجوية شكل حافزاً كبيراً لموسكو كي تشرع في تطوير العديد من مشاريع السفن السطحية غير المأهولة، منها ما تم عرضه خلال منتدى هذا العام، مثل المسيرة البحرية متعددة المهام “Murena-300S” التي قدمها مكتب التصميم “KB” المتخصص في الأنظمة غير المأهولة بغرض تنفيذ مهام الحراسة والدورية البحرية للدفاع عن منشآت البحرية الروسية، وإجراء عمليات نشر أو إزالة الألغام، وتنفيذ عمليات الاستطلاع البحري والساحلي، وتقديم الدعم الناري البحري للوحدات البرية.

يبلغ المدى الأقصى لهذه المسيرة 500 كيلومتر، ويمكن أن تبحر بسرعة تبلغ 45 كيلومتراً في الساعة، بحمولة تصل زنتها إلى نصف طن. وتتسم هذه المسيرة بمقاومة محسنة لإجراءات الحرب الإلكترونية، وإمكانية الملاحة بالقصور الذاتي في حالة فقدان الاتصال مع القاعدة، وهي مزودة بحزمة استطلاع بصري وحراري متطورة.

على المستوى الجوي، قدمت شركة “كرونشتات” نسخة محدثة من طائراتها الهجومية المسيرة “GROM”، وهي الطائرة التي تم عرض النسخة الأولى منها في معرض “أرمي-2021”. وقد تم إجراء تعديلات جذرية على بدن هذه المسيرة وخصائصها الفنية، إذ زادت حمولتها القصوى إلى 2 طن، ووصلت سرعتها القصوى إلى 1000 كيلومتر في الساعة، على ارتفاعات تبلغ 12 كيلومتراً، وبنصف قطر عملياتي يبلغ 700 كيلومتر.

بالنسبة إلى تسليح هذه المسيرة، تم تجهيز بدنها بأربع نقاط تثبيت تحت الجناح للصواريخ المضادة للطائرات، إضافة إلى حاوية داخلية للذخائر، مختصة بالذخائر الموجهة، وبالتالي تصبح هذه المسيرة قادرة على تنفيذ كل العمليات الجوية، بما في ذلك عمليات إحباط الدفاعات الجوية المعادية، والاستطلاع الإلكتروني، والعمليات الهجومية المضادة للقطع البحرية والمواقع الحيوية، إلى جانب إمكانية أن تصبح هذه الطائرة المسيرة في مرحلة لاحقة قادرة على أن تكون منصة لإطلاق طائرات مسيرة أصغر حجماً.

من ضمن الذخائر الجوية المخصصة للطائرات المسيرة، التي تم الكشف عنها في منتدى “أرمي-2024″، الصاروخ جو – أرض الموجه بالليزر “KH-UAV”، المصمم لتدمير الأهداف الأرضية المدرعة الخفيفة والأهداف البحرية السطحية منخفضة الحمولة.

تم تزويد هذا الصاروخ بمحرك يعمل بالوقود الصلب، وتوجيه شبه نشط بأشعة الليزر، ورأس حربي شديد الانفجار يزن 6 كغم، ويصل مدى هذا الصاروخ إلى 8 كيلومترات. حقيقة الأمر أن تطوير هذا النوع من الذخائر المخصصة للطائرات المسيرة يرتبط بتجربة الطائرات المسيرة في الميدان الأوكراني، وظهور الحاجة إلى أن يتم تحويل كل الطائرات المسيرة متوسطة أو بعيدة المدى إلى طائرات متعددة المهام، لا تقتصر خصائصها على تنفيذ مهام محددة، بحيث يكون لكل أنواع الطائرات المسيرة الروسية القدرة على تنفيذ عمليات هجومية متعددة الأشكال.

العربات المدرعة والدبابات تخضع لتطوير جذري

من النقاط البارزة في منتدى هذا العام ما ظهر على أنواع الدبابات والعربات المدرعة الروسية المختلفة من تطوير يرتبط بالخبرة القتالية المستقاة من الميدان الأوكراني، سواء عبر تعميم الدروع القفصية والجانبية، أو انتشار الشبكات السقفية المضادة للطائرات المسيرة، أو تثبيت أجهزة الحرب الإلكترونية المضادة للطائرات المسيرة، على هذه الأنواع كافة.

يُضاف إلى ذلك رفع كفاءة الدبابات الروسية عبر طلائها بمادة “Nakidka” الماصة لموجات الراديو، ما يقلّل احتمالية رصدها رادارياً وتزويدها بتمويه رقمي لتقليل إمكانية رصدها بالعين المجردة، إضافة إلى تزويدها بأقسام إضافية من دروع الحماية النشطة على الجوانب والأجزاء الخلفية التي كانت تلك الدروع غائبة عنها خلال العقود السابقة.

هذا التطوير شمل أنواعاً من المدرعات وناقلات الجند كانت عاملة في الجيش الروسي منذ العهد السوفياتي، مثل المجنزرات متعددة المهام “MT-LB” التي تم عرض نسخة محدثة بالكامل منها في هذا المنتدى، تحت اسم “MGT-LB”، تتميز بقدرة تحميل تصل إلى 2,500 كيلوغرام، وإمكانية قطر حمولات تصل أوزانها إلى 7 أطنان. ويتألف طاقمها من اثنين من المشغلين، وتتسع حجرة الجنود بداخلها لثمانية جنود. كذلك، تم عرض النسخة الأحدث من ناقلات الجند المدرعة “BTR-82A” تحت اسم “BTR-22″، التي تم تزويدها بمنظومة متقدمة للحرب الإلكترونية ودروع متنوعة.

أنظمة الدفاع الجوي الروسية العاملة في أوكرانيا، وخصوصاً منظومات “بانتسير” قصيرة المدى، خضعت لتطوير جذري بناء على الدروس الميدانية. وقد عرضت شركة “KBP” النسخة الأحدث من هذه المنظومة، تحت اسم “Pantsir SMD-E”، التي تم تصميمها بشكل أساسي لتوفير الحماية الجوية للمنشآت والمناطق العسكرية والإدارية والصناعية الصغيرة الحجم من الاستخدام المكثف لأسلحة الهجوم الجوي، وخصوصاً الطائرات المسيرة.

في هذه النسخة، تم الاستغناء عن المدفعين الرئيسيين من عيار 30 ملم، وتسليح المنظومة بما مجموعه 48 صاروخاً صغيراً قصير المدى، موضوعة في خمس حاويات رباعية.

كما تم خفض وزن المنظومة للسماح بتثبيتها على أسطح المباني. من أهم التعديلات التي طرأت على هذه المنظومة، تزويدها برادار متقدم يمكن أن يرصد الطائرات المسيّرة الصغيرة على مسافات تتراوح من 5 إلى 7 كيلومترات، وأن يرصد الأهداف الجوية الكبيرة على مسافات تصل إلى 45 كيلومتراً. ويمكن لهذا الرادار تتبع ما يصل إلى 40 هدفاً في وقت واحد.

في الخلاصة، يمكن القول إن تأثيرات القتال في الميدان الأوكراني، سواء الاستخدام المكثف لتقنيات المسيرة المختلفة، أو المواجهات المدرعة على الأرض، أو عمليات الدفاع الجوي، كان لها انعكاس كبير على عمليات التطوير العسكري الروسي، والتي من الواضح أنها لم تتوقف أو تتأثر باستمرار القتال في أوكرانيا، اعتماداً على أن أفضل طريقة لاختبار فعالية سلاح ما هي تجربته في ساحة قتال حقيقية. ولعل الساحة الأوكرانية كانت مثالية في هذا الصدد، في ظل مواجهة تسليحية مستمرة بين أسلحة شرقية وغربية المنشأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى