ألقت جولات المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل الضوء على ظاهرة سباق التسلح في الشرق الأوسط، فبينما كانت إيران تسعى لتعزيز قدراتها النووية، لتضم إلى النادي النووي، مما دفع إسرائيل لمحاولة منع تحول توازن القوى الإقليمي لمصلحة إيران في هذا الصدد، نجد أن الطرفين أخيراً بدآ تعزيز قدراتهما العسكرية على نحو يؤشر إلى سباق آخر في ما يخص التسلح العسكري.
فبينما كان رد إسرائيل على إطلاق إيران الصواريخ والطائرات من دون طيار في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، رداً على الهجمات في الأشهر الأخيرة على اغتيال إسماعيل هنية وحسن نصرالله، إلا أن الرد الإسرائيلي الأخير على إيران أثار عدداً من القضايا في داخل إيران، لا سيما أنها المرة الأولى التي تصل صواريخ إلى داخل الأراضي الإيرانية منذ الحرب العراقية- الإيرانية التي امتدت ثمانية أعوام.
وبينما حاولت إيران الرد منذ اندلاع “طوفان الأقصى” والعمليات الإسرائيلية ضد “حماس” و”حزب الله” والحوثيين وإيران، إلا أن طهران عملت على تجنب أن تمتد المواجهات العسكرية إلى أراضيها بل إبعاد الحرب عنها، ومع ذلك أصبح لدى إيران الآن قلق من أن تواجه إمكانية نشوب حرب تقليدية في الداخل، وهو متناقض مع مبدأ الدفاع المتقدم الذي تقوم عليه الاستراتيجية الإيرانية القائمة على نقل أي مواجهات مع الولايات المتحدة أو إسرائيل إلى خارج أراضيها عبر تشكيل شبكة من الوكلاء الإقليميين يمكنهم إثارة بؤر التوتر والصراع ضد المصالح الإسرائيلية والأميركية في المنطقة بعيداً من الأراضي الإيرانية.
اقرأ أيضا.. حرب “إيران – إسرائيل” الأولى أم الأخيرة؟
وفى حين لو قررت إيران الرد على إسرائيل مرة أخرى، فإن مصالحها والمنفعة العائدة من الضربات لن تكون مجدية، لأن طهران من ناحية لا تريد التورط في حرب إقليمية كبرى، ومن ناحية أخرى تواجه قيوداً عسكرية، على سبيل المثال البحرية الإيرانية ليست قوية ولا تستطيع إيران إرسال قواتها البحرية إلى المياه القريبة من إسرائيل، كما أن القوة الجوية الإيرانية متواضعة ومتقادمة، إذ يتكون الأسطول الجوي الإيراني من مقاتلات “أف-14″ و”أف-4” و”ميغ-29″، كما أن ناقلات الوقود الإيرانية من طراز “كيه سي-700” قديمة.
لذلك، لا يمكن لسلاح الجو الإيراني مهاجمة إسرائيل بصورة مباشرة، والطريقة الوحيدة أمام إيران هي مهاجمة إسرائيل بالصواريخ أو الطائرات من دون طيار، إذ لم تتسبب الهجمات الصاروخية والطائرات من دون طيار الأخيرة بأضرار جسيمة لإسرائيل حتى الآن، التي ترجع إلى أن أحد الاحتمالات هو أن إيران لم تكن ترغب في التسبب بأضرار جسيمة تكلفها انتقاماً إسرائيلياً.
الاحتمال الآخر هو أن نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي كان ناجحاً، ومع ذلك فإن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مصانع إنتاج الصواريخ الباليستية الإيرانية والطائرات المسيرة ومعها تجلى ضعف بعض القدرات العسكرية الإيرانية، لذا أصبحت قضية الدفاع والتسلح محور اهتمام الحكومة الإيرانية وتساؤل المهتمين بالشأن العسكري وإثارة التساؤل حول، لماذا لم تدخل أنظمة الدفاع الإيرانية الثقيلة وبعيدة المدى مثل “أس-300” حيز التنفيذ خلال الضربات الجوية الإسرائيلية.
وتشير تصريحات المعنيين إلى ضرورة تطوير مزيد من الأنظمة الدفاعية وتحديث أنظمة الدفاع لإيران.
من جهة أخرى تتجه إيران إلى زيادة الإنفاق العسكري رغم الظروف الاقتصادية التي تعانيها، فقد صرحت المتحدثة باسم الحكومة فاطمة مهاجراني بأن موازنة الدفاع ارتفعت بنحو 200 في المئة على أمل أن تلبي هذه الزيادة حاجات البلد الأمنية والعسكرية، وفي كلمتها أمام البرلمان الإيراني انتقدت إسرائيل التعليقات التي تناولت مناقشة الموازنة، كما أشارت إلى التهديدات التي تتعرض لها إيران من قبل ما تسميه طهران “إرهابيين” في إقليم بلوشستان، أي مضاعفة الموازنة العسكرية نحو ثلاث مرات.
وفى حين أن إيران أصبحت مترددة في الرد على الهجوم الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية إلا أن المسار المؤكد بالنسبة لها هو التحرك نحو التسلح واستكمال برنامجها النووي العلني والسري.
ووفقاً لمؤسسة أبحاث معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) بلغ الإنفاق العسكري الإيراني في عام 2023 نحو 10.3 مليار دولار، في حين بلغ نظيره الإسرائيلي نحو 27.5 مليار دولار من العام نفسه.
ووفقاً لمؤسسة أبحاث معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) تطور الإنفاق العسكري الإيراني في آخر أربعة أعوام من 3.3 مليار دولار في 2020 بنسبة 2.17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 5.7 مليار دولار في 2021 ونسبة 2.22 في المئة، ثم إلى 7.3 مليار دولار خلال عام 2022 محققاً نسبة 2.11 في المئة، وفي العام الماضي 2023 وصل إلى نحو 10.3 مليار دولار بنسبة 2.06 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغ نظيره الإسرائيلي نحو 27.5 مليار دولار من العام نفسه.
لذا وعلى إثر الهجمات الجوية الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية للمرة الأولى منذ الثمانينيات، سترغب إيران في زيادة مدى ودقة وعدد صواريخها الباليستية بصورة عامة، وسترغب في الاستثمار في الجوانب العسكرية لبرامجها الفضائية والنووية، كما ستستثمر في الطائرات من دون طيار، وقد تسعى إلى تحديث ليس فقط دفاعاتها الجوية، ولكن أيضاً قواتها البحرية والجوية التي تأخرت لأعوام عديدة.
في المقابل تسعى إسرائيل إلى توظيف التوترات بينها وبين إيران في الحصول على مزيد من الدعم العسكري الأميركي، الذي لم ينقطع منذ “طوفان الأقصى”، وعادت إسرائيل مرة أخرى لمطالبة واشنطن بتزويدها بقنابل لديها القدرة على اختراق المنشآت النووية الإيرانية المدفونة تحت الأرض.
وبعد أيام قليلة من تعزيز الولايات المتحدة للدفاع الجوي الإسرائيلي بنشر بطارية دفاع جوي صاروخي عالي الارتفاع “ثاد” إضافة إلى 100 جندي، نفذت إسرائيل ضربة انتقامية على إيران، وشارك ما يقدر بنحو 100 طائرة إسرائيلية في العملية التي استمرت ساعات، وصرح الجيش الإسرائيلي بأنه “نفذ ضربات مستهدفة ودقيقة على أهداف عسكرية في إيران مما أحبط التهديدات الفورية وكانت المواقع العسكرية في طهران، من بين تلك الأهداف”.
وقال الجيش الإسرائيلي، إن الضربة استهدفت منشآت تصنيع الصواريخ التي استخدمتها إيران في الهجمات على مدار العام الماضي، كما تم استهداف صواريخ أرض-جو إيرانية وقدرات جوية كانت تهدف إلى تقييد حرية إسرائيل الجوية في العمل داخل إيران.
وفى حين يتجه الطرفان إلى إعادة بناء معادلة الردع بينهما كل لمصلحته، سيندلع في الشرق الأوسط سباق التسلح الذي يعني سعي الدول المتنافسة التي بينهما علاقات عداء إلى زيادة قدراتهم العسكرية كماً ونوعاً، الذي أحد مؤشراته هو الإنفاق العسكري.
وبالنسبة لإيران سيترتب على ذلك زيادة العبء الاقتصادي، وربما استمرار سخط المواطنين، لكن في المقابل سيستمر الخطاب الرسمي الذي يعلي من قدر التهديدات الإقليمية الإسرائيلية والأميركية لتبرير الإنفاق العسكري، وربما تسعى للاستثمار أكثر في الميليشيات الإقليمية التي هي جزء أساسي في استراتيجيتها العسكرية.
لكن في النهاية سيعاني الشرق الأوسط من معضلة أمنية تترتب على تعزيز القدرات العسكرية لكل من إيران وإسرائيل مما يدفع دول المنطقة الأخرى للتوجه ذاته لتوفير الأمن والحفاظ على توازن القوى الإقليمي، وبينما يحدث ذلك ستتغير خريطة التسليح في المنطقة، وهو ما لا ينذر بالتوجه نحو الأمن والاستقرار.