لا تتعامل إيران مع أي تغيرات دولية أو إقليمية بصورة آنية، لكنها تستعد للسيناريوهات المحتملة والمختلفة، كما تعمل على استغلال التحديات لتوظيفها لمصلحتها.
يمكن أن نجد أكثر من مسار تحاول إيران انتهاجه الآن استعداداً لسياسة دونالد ترمب تجاهها، ويمكن أن نقف على ذلك من خلال وفاة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي في ظل حرب إقليمية تقترب منها، ثم الاستعداد لعدم الانجرار للمواجهة مع إسرائيل ثم الاستعداد للإدارة الأميركية الجديدة وتوقيت إعادة العقوبات الأممية، ثم مجيء دونالد ترمب.
منحت وفاة إبراهيم رئيسي إيران فرصة لاستغلالها والاستعداد للظرف الإقليمي والدولي برئيس محسوب على التيار الإصلاحي يمثل الوجه المنفتح للتعاون والتحاور مع الغرب، فجاءت برئيس إصلاحي والأهم منه هو فريق من الدبلوماسيين ذوي الخبرة في التفاوض مع الغرب الذين نجحوا في إتمام الاتفاق النووي ومن بينهم جواد ظريف وعباس عراقجي.
والتوقيت مهم لإيران، لا سيما مع اقتراب موعد انتهاء استخدام القوى الأوروبية لآلية الاسترداد المعروفة بـ”سناباك” في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2025. وسواء كان الوافد إلى البيت الأبيض من الحزب الديمقراطي، إذاً فالرئيس الإصلاحي كان يمثل فرصة للتهدئة في ظل تصعيد إقليمي شهد حرباً إسرائيلية في غزة ولبنان وتجاه محور إيران، وإذا كان الوافد الجديد هو دونالد ترمب، فسيكون الرئيس الإصلاحي فرصة مواتية لخلق قنوات ومسارات عدة للتهدئة في ظل وجود الثنائي نتنياهو وترمب.
ومع استعداد إيران لسيناريو مجيء ترمب الذي لا ينوي تغيير النظام الإيراني، كما أعلن خلال حملته الانتخابية وقال إنه مستعد لعقد اتفاق، إلا أن طهران خلال الأيام الأخيرة بدأت تتأهب لسيناريو سياسة الضغط الأقصى المحتملة عليها. وأبدت عدم اكتراثها لمن جاء إلى البيت الأبيض، لكنها سارت في مسارين، الأول إبداء عدم أهمية سياسة الضغط الأقصى، وسعت إلى الترويج أن تلك السياسة لم تأتِ أكلها معها، مما يتناقض مع الواقع تماماً، إذ عانت موازنة الحكومة من سياسة تصفير النفط التي أثرت في قدرة إيران على تمويل “حزب الله” خلال الأعوام الأربعة الأولى لحكم ترمب، وعدم اعتماد إيران الاقتصادي على أميركا وحتى أوروبا محدود وليست لدينا علاقات اقتصادية عالية معهم، ولذلك فإن الانتخابات الأميركية ورئاسة ترمب لا تؤثر بصورة مباشرة في الاقتصاد الإيراني.
اقرأ أيضا.. ماذا تتوقع إيران من إدارة ترمب الجديدة؟
ومن جهة أخرى، تبارت الكتابات الإيرانية وأثير الجدل السياسي حول ضرورة تغيير السياسة الإيرانية تماشياً مع التغيرات الدولية، وأن طهران بحاجة لبناء معادلة ردع جديدة تقوم على امتلاك السلاح النووي وتعزيز القدرات النووية والصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية من جهة وزيادة مدى الصواريخ الإيرانية ليصل مداها إلى أكثر من 2000 كيلومتر حتى تكون قادرة على الوصول إلى أوروبا من دون مراعاة السياسات الأمنية الأوروبية، وتطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات. إذاً تحاول إيران في هذا المسار أن تروج لكونها ستعمل على تغيير قدرات الردع لديها، واستراتيجيتها الدفاعية التي لم تعُد مناسبة للتغيرات الإقليمية والدولية.
لكن في الوقت ذاته، انتهجت إيران الرسمية، أي عبر المسؤولين الرسميين مساراً آخر ينادي بالدبلوماسية والحوار وإقناع ترمب بالابتعاد من سياسة الضغط الأقصى، وتزامن ذلك مع قرب الانتهاء من تشكّل ملامح فريق إدارة ترمب، فوجدت طهران أن فريق الأمن والسياسة الخارجية في إدارة ترمب انتهج نهجاً صارماً ضد إيران والصين، باعتبار أنه يضم أشخاصاً سيدفعون الحكومة الأميركية إلى تصعيد التوتر، ومن ذلك تعيين براين هوك رئيساً لفريقه الانتقالي للأمن القومي وهو من بين مؤيدي الضغط الأقصى ضد إيران وروسيا والصين، ومايكل والتز مستشاراً للأمن القومي الذي يعتبر من أشد المؤيدين للهجوم على البرنامج النووي الإيراني، إضافة إلى ماركو روبيو بصفته وزيراً للخارجية وهو أحد المعارضين لإيران وروسيا وكوبا وفنزويلا وعمل لمدة 10 أعوام على احتواء الصين.
وبدأ يتبدى لطهران النهج المحتمل لإدارة ترمب في السياسة الخارجية في مواجهة إيران والصين وروسيا، لذا جاءت زيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي من جانب آخر لتستغله إيران للدفع بالمسار الدبلوماسي، وأكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن لقاءات غروسي في طهران ركزت على المحادثات السابقة بين المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية ووزير الخارجية الإيراني السابق حسين أمير عبداللهيان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2023.
وجاءت الزيارة بعد عدم إيفاء إيران لأكثر من سنة باتفاقها مع الوكالة الذي عقد في مارس (آذار) عام 2023 عندما التقى غروسي رئيس منظمة الطاقة الذرية محمد إسلامي والرئيس حينها إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان واتفقوا على بيان ثلاثي حول التعاون في قضايا الضمانات الباقية، لكن طهران فشلت في الوفاء بالتزاماتها في ذلك الاتفاق وتتهم طهران بعدم التعاون مع الوكالة، بخاصة في مجال عدم إصدار تأشيرات لعدد من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وبعد اجتماع غروسي، كتب وزير الخارجية عباس عراقجي على حسابه الخاص بعد إجراء محادثات “مهمة ومباشرة” مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية في جنيف، “نحن على استعداد للتفاوض على أساس مصلحتنا الوطنية وحقوقنا غير القابلة للتصرف، لكننا لسنا مستعدين للتفاوض تحت الضغط والترهيب. كما أكد أن إيران ستواصل التعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة كطرف في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية”.
وترك عراقجي الباب مفتوحاً أمام الغرب، قائلاً إن “الخلافات يمكن حلها من خلال التعاون والحوار، وأكد أن بلاده مستعدة للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية فقط إذا أوفى الجانب الغربي بالتزاماته بموجب الاتفاق النووي. ووصف إسلامي محادثاته مع غروسي بأنها “بناءة”، محذراً من أن بلاده سترد على الفور على أي قرار ضدها يصدر عن مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
تلك الخطوات تتزامن مع توتر العلاقات بين إيران والدول الأوروبية التي ترى إيران أنها تحتاج إلى إدارة بصورة مختلفة، إذ إن الجانب الأوروبي يمثل أهمية لطهران، لكن أخيراً تضغط الترويكا الأوروبية من أجل إصدار قرار جديد ضد إيران في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأسبوع المقبل للضغط عليها في شأن ضعف التعاون.
من جهة أخرى، سعى نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية جواد ظريف إلى الدفع بالدبلوماسية وإقناع ترمب بالبعد من سياسة الضغط الأقصى، واعتبر أنها لم تجدِ نفعاً، بل دفعت إيران إلى مزيد من التعنت والتخلي عن التزاماتها النووية، وقال على موقع “إكس”، “يجب على السيد ترمب أن يُظهر أنه لا يتبع سياسات الماضي الخاطئة، لا بد من أن ترمب أدرك أن سياسة الضغط الأقصى التي بدأها دفعت إيران إلى زيادة التخصيب من 3.5 في المئة إلى 60 في المئة وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي أيضاً”.
وكتب عراقجي على حسابه في موقع “إكس” أن “التنفيذ الأولي لحملة الضغوط القصوى المزعومة التي نفذها ترمب خلال ولايته الأولى كرئيس للولايات المتحدة أدى إلى انتكاسة كبيرة لواشنطن”، مضيفاً أن النسخة الثانية من الضغط الأقصى ستؤدي إلى النسخة الثانية من الفشل الأقصى للولايات المتحدة، وأشار إلى التباين بين البرنامج النووي السلمي الإيراني قبل وبعد تطبيق سياسة الضغط الأقصى كدليل على أوجه القصور في نهج واشنطن، مقترحاً أن يحاول الأميركيون “أقصى قدر من الحكمة” لمصلحة الجميع.
وإضافة إلى ذلك، قال عراقجي إنه في حين أن خلافات إيران مع الولايات المتحدة جوهرية للغاية، فمن الأهمية “تنفيذ استراتيجيات الإدارة ذات الصلة لتقليل كلفة الاختلافات”، مؤكداً أن قنوات الاتصال بين البلدين ظلت مفتوحة دائماً، وأشار إلى أن خطاب المسؤولين الأميركيين لا يحمل أهمية كبيرة بالنسبة إلى إيران، معتبراً أن الأفعال أكثر تأثيراً.
وشدد على إمكان بدء المفاوضات مع الولايات المتحدة، معتبراً أن إيران كانت دائماً منفتحة على الحوار وأن أي قرار بالدخول في مفاوضات يتوقف على حماية مصالح الأمة، وأن الأطراف الغربية هي التي خالفت وعودها وكانت الولايات المتحدة هي التي تركت طاولة المحادثات”.
وهناك عامل آخر مهم تحاول إيران من خلاله إرسال رسائل إلى ترمب بالابتعاد من التصعيد وانتهاج الدبلوماسية معها وهو أن البيئة الإقليمية الجيوسياسية والأمنية تغيرت، فبينما سعت طهران إلى تطبيق دبلوماسية الجوار في عهد إبراهيم رئيسي، إلا أنها تسعى الآن إلى الحفاظ عليها تجنباً لأي عزلة إقليمية قد تطاولها في مواجهة ترمب ونتنياهو، لذا كانت زيارة رئيس أركان القوات المسلحة السعودية إلى إيران من بين أهم العوامل التي منحت إيران هامشاً لإرسال رسائل بأنها غير معزولة إقليمياً وأن لا مجال لسياسة الضغط الأقصى من قبل ترمب وأن هناك مساراً إقليمياً لخفض تصعيد العلاقات الإقليمية وتطوير الشراكات الأمنية بين دول المنطقة.
إن كل ما سبق يوحي بأن إيران تعمل على إقناع ترمب بالتخلي عن سياسة الضغط الأقصى وانتهاج الدبلوماسية ولغة الصفقات والمصالح، لا سيما أن حكومة طهران الحالية أعلنت في بداية ولايتها أنها تستهدف رفع العقوبات أكثر من العودة للاتفاق النووي لعام 2015.
لكن في مقابل التخوف من وجود ترمب إلى جانب فريقه من السياسة الخارجية والأمن القومي الذي ينتهج سياسة متشددة ضد إيران ومع استمرار حروب نتنياهو في المنطقة، تسعى طهران إلى الدفع بالدبلوماسية عبر الوكالة الدولية وعبر صناع قرارها، ومن ثم ربما تستمر في البحث عن مساحات مشتركة للمصالح بينها وإدارة ترمب سواء في العراق أو سوريا أو ربما عبر التفاوض حول العلاقات مع الصين وروسيا بما يخدم سياسات ترمب وحربه ضده بكين، وكثيراً ما نجحت طهران وواشنطن في التفاوض ضمن المساحات المشتركة من المصالح على رغم الصراع في مساحات أخرى.