خلط الهجوم، الذي نفّذته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023 على الجنوب الإسرائيلي، الأوراق في المنطقة؛ ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بوجهة الأحداث الجارية، لاسيما بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، ولا كيف ستكون طبيعة علاقته مع حكومة بنيامين نتنياهو، التي بدأت تواجه في الأيام الأخيرة سلسلة من الفضائح الكبيرة، بعضها يمس اداء مكتبه وضلوعه شخصيا فيها.
واجه المجتمع الإسرائيلي قبل السابع من أكتوبر حالة انقسام جدّية، كان من شأنها، لولا اندلاع الحرب الحالية، أن تحسم الصراع بين معسكرين رئيسيين، بدا وكأنه ينحصر حول مفهوم الديمقراطية، وضرورة المحافظة عليهاـ كيما تبقى إسرائيل دولة قوية وقادرة على العيش ومواجهة مستقبلها؛ لكنه في الواقع كان أعمق، وبعدة أوجه وأبعاد تتفرع من قضية الديمقراطية أحيانا، وتشتبك معها أحيانا أخرى؛ لو قيّض لها أن تستمر، لكانت ستؤدي إلى إحداث تغييرات جدية داخل إسرائيل، وعلى مصير القضية الفلسطينية أيضا.
أعادت حادثة أكتوبر إلى صلب «الهموم الإسرائيلية» جملة من المواضيع، ووحّدت حولها جميع شرائح المجتمع الإسرائيلي، لاسيما في الأشهر الأولى بعد تنفيذها. فضرورة شن الحرب على الفلسطينيين، ومن يناصرهم من دول المنطقة، تحوّلت إلى قضية إجماع إسرائيلي؛ وصارت قضية الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية مسألة مفروغا منها وخيار الحرب قائما دوما، ولذلك يجب أن تبقى إسرائيل قوية ومتفوقة على قوة أعدائها جميعهم.
تشغلنا الحرب عمّا يجري داخل المجتمع الإسرائيلي، وما يشغل بعض مؤسساتها الإعلامية والبحثية، وما تنتجه من دراسات ومواقف، من شأنها أن توضح لنا معالم طريقنا، خاصة، نحن المواطنين العرب في الداخل.
سأطل بعجالة على بعض هذه الوثائق، وأعرف أنها بحاجة لدراسات أعمق وأطول.
*الوثيقة الأولى: جلسة إسحاق رابين وقيادات جيشه عام 1974: بمناسبة مرور تسعة وعشرين عاما على مقتل رئيس حكومة إسرائيل إسحاق رابين برصاصة أطلقها عليه مواطن يهودي يدعى يغئال عمير، كُشف النقاب عن تسجيل صوتي لاجتماع تم عام 1974 ناقش فيه رابين مع قيادات جيشه جملة من المواضيع الحساسة، استعدادا لزيارة كان سيقوم بها رابين إلى الولايات المتحدة ليبحث مع الإدارة الأمريكية مصير الأراضي العربية المحتلة على ضوء نتائج حربيها في عامي 1967 و1973.
خرجت اسرائيل من حرب أكتوبر 1973 وهي تواجه أزمة وجودية إزاء المباغتة التي سببها هجوم القوات المصرية والسورية لحدودها، ونجاح هذه القوات بتخطي حدود إسرائيل بصورة ضعضعت ثقتها بقدراتها العسكرية، كما كانت عليه بعد نصرها الساحق في حرب يونيو 1967. تمحورت نقطة البحث الأولى حول موافقة الجيش على تقديم تنازلات وإرجاع المناطق التي تخضع لسلطته على الجبهات الثلاث: الجولان السوري وسيناء المصرية والأراضي الفلسطينية المحتلة. وتناولت النقطة الثانية أهمية الاحتفاظ بتلك الأراضي من الناحية الأمنية الاستراتيجية الإسرائيلية.
اقرأ أيضا| أسئلة الإبادة بين غزة والسودان!
تكشف الوثيقة مواقف الجنرالات، ومعارضة معظمهم لإعادة تلك الأراضي وتأكيدهم على ضرورة الاحتفاظ بها لكونها ضمانة تكفل لإسرائيل استمرار تفوقها في الصراع القائم بينها وبين الدول العربية المعادية لها. بعد سماعه لموقف الجنرالات أبدى رابين معارضته لتوجههم وقال: «لا أرى احتمال حل الصراع العربي- الإسرائيلي ممكنا بالوسائل العسكرية»، وأوضح مستطردا: «أي أن الانطلاق من فرضية أننا نستطيع بواسطة الحرب فرض السلام، في ظروف تلك الأعوام وفي المستقبل، هو أمر غير واقعي». لكنه أضاف: «إن التفاوض السياسي يجب أن يرتكز على القوة العسكرية، لأنه من دون قوتنا العسكرية لن يحصل أي تفاوض سياسي».
تلقي الوثيقة الضوء على ما كان يقلق القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية في تلك الأيام، لا حيال فرص التوصل إلى حل الصراع الاسرائيلي- العربي والوسائل التي قد تفضي إليه وحسب، بل أيضا إلى مكانة الجيش ومركزيته كعامل موحد لجميع فئات الشعب، وككيان لا يخضع ويجب ألا يخضع للمناكفات ولا للاختلافات السياسية، ولا لأية تجاذبات يواجهها المجتمع الإسرائيلي في أعقاب ما جرى في تينك الحربين.
وقد يكون موقف رابين وتقييمه النهائي، كما كشفت عنه تلك الوثيقة، مؤشرا لما حدث في السنوات التي تلتها، لاسيما الأسباب التي أدت إلى اغتياله، إذ قال إنه «في الواقع العربي والدولي أنا لا أومن أن الوضع الحالي سيستمر وقتا طويلا. أمامنا إمكانيتان: الحرب أو احتمال ضئيل للتوصل إلى صيغة اتفاق ما». وأوضح انه مع فكرة إرجاء خوض الحرب قدر المستطاع، بشرط «ألا يسبب ذلك دفع ثمن يضعنا في خطر غير معقول».
قارب الإعلام الإسرائيلي بين مضامين تلك الوثيقة والحالة الإسرائيلية قبل وفي أعقاب السابع من اكتوبر 2023، مؤكدين أن الهواجس والعوامل التي استحكمت في مواقف القيادتين السياسية والعسكرية في تلك الأعوام تشبه إلى حد بعيد ما تواجهه إسرائيل في هذه الأيام؛ ولكن تبقى الفوارق بين الدوافع التي كانت وراء قرارات أولئك القادة، وتلك التي تحرّك اليوم قادة إسرائيل وما تسببه قراراتهم من اختلالات داخل المجتمع الإسرائيلي والتصورات ازاء الضرورة للعيش على نيران الحرب ومكانة الأراضي المحتلة وأهميتها لأمن إسرائيل وحدودها ودور المؤسسة الأمنية والعسكرية في المحافظة على سلامة الدولة ومستقبلها.
*وثيقة الإعلامي رفيف دروكر: نشر الصحافي رفيف دروركر على شاشة القناة 13 العبرية الإسرائيلية تحقيقا شاملا في حلقتين، استعرض فيهما ما سماه عملية احتلال الوزير ايتمار بن غفير لوزارة الأمن القومي، وإخضاع وزارة الشرطة الإسرائيلية لسلطته والتحكم في عملها اليومي، وفي تعيين قياداتها وفقا لمعايير موضوعية ومهنية خارج ما كان معتمدا ومألوفا خلال تاريخ هذه المؤسسة. حصل الصحافي على مضامين مراسلات الوزير مع مجموعة من مستشاريه المقربين، أجراها على تطبيق «الواتساب»، ومنها يتضح كيف أدار حملاته السياسية وآلية اتخاذه للقرارات، وماذا كانت أهدافه الحقيقية.
فبيّن أنه ومجموعته خططوا للتخلص ممن اعتبروهم معادين لسياسته في جهاز الشرطة، وتعيين ضباط موالين له ومستعدين لمواجهة المتظاهرين اليهود ضد سياسات الحكومة بأساليب تعتمد على العنف، بما في ذلك إلقاء قنابل الصوت وتفريقهم بالقوة، كما حصل فعليا. ويتضح كذلك أن الوزير وفريقه تعمدوا التحرش بالمواطنين في القدس الشرقية، حيث شرعت عناصر الشرطة وما يسمى بقوات حرس الحدود بالتضييق على السكان العرب والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم وتنفيذ حملات اعتقالات واسعة بينهم.
أدى نشر التحقيق إلى ردود فعل صاخبة واستهجانات حتى بين صفوف شخصيات سياسية وعسكرية وأمنية، كانت تعتبر من الداعمين لحكومة نتنياهو؛ وأبدى جميعهم تخوفهم من سقوط «قلعة الشرطة الإسرائيلية» ومن تحويلها إلى ما يشبه الميليشيات الخاصة الخاضعة لإمرة هذا الوزير ومستشاريه، على ما سيلحقه هذا الوضع من مخاطر على أمن الدولة وسلامة مواطنيها بشكل عام وعلى المعارضين اليهود والعرب طبعا.
*وثيقة معهد «مسغاف» حول وضع الجريمة داخل المجتمع العربي:
صدرت عن معهد «مسغاف لدراسات الأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية» دراسة مطولة تناول فيها الباحثان بروفيسور كوبي ميخائيل وبروفيسور جابي سيبوني، وضع الجريمة داخل المجتمع العربي في إسرائيل. أهم خلاصات هذا البحث المطوّل هي نداء الباحثين إلى ضرورة اعتراف الدولة بأن استفحال ظاهرة الجريمة المنظمة هو «تهديد خطير على الأمن القومي، ويؤدي إلى فقدان مكانة الدولة ولسيادتها في مناطق كثيرة».
يطرح الباحثان تصوّريهما إزاء هذه القضية وسبل مواجهتها، بيد أنهما لا يتطرقان لاتهام المواطنين العرب وقيادات مؤسساتهم السياسية والمدنية بأن هذه الحالة نشأت وكبرت في ظل سياسات مؤسسات الدولة وربما بتواطؤ بعضها مع هذه الحالة. فبتغييب هذا الادعاء تبقى دراستهما منقوصة وعاجزة للتوصل إلى حل لهذه الأزمة.
كما قلت، هذه مجرد إطلالات ولفت انتباه لنا/للعرب إلى أن نيران الحرب ودماء ضحاياها يجب ألا تشغلنا بالكامل عمّا يحدث تحت جمرها الراقد.