في السياسية، لست مارونياً أو سنّياً أو شيعياً وللّه الحمد. وفي الدين ألتقي مع اللّه صباحاً ليس على فنجان قهوة ساخنة بل على حرارة الصلاة وأختم نهاري مساءً لا على كوب شاي بل بشكره. وبرأيي إن أقصر سبيل للتلاقي معه ليس حصراً بدور العبادة ولا بالضرورة عبر وكلاء اللّه وأعيانه بل مباشرة في موضع قريب للإثنين بين إحداثية العقل وإحداثية القلب. وما يغنيني عن شرف السياسات والحزبيات والشرفيات كوني لبناني ميثاقي، وما عدا ذلك هو ثانوي في قناعتي . هكذا أفهم لبنان رسالة كونية ولو بقيت منه مجرد “زهرة في خيالي”، فلم يعد لبنان حديقة غنّاء ولا فيه “المغنى حياة الروح” بل طقوساً جنائزية على أرواح الشهداء والضحايا، الاموات منهم والاحياء.
لذلك، وخارج الاصطفاف، قراءتي لبعض جوانب “الترتيبات الأمنية” المعلنة بتاريخ 26 تشرين الثاني 2024 لتنفيذ القرار 1701 هي محاولة لإستشراف المرحلة المقبلة بتجرّد وبالحديث عن بعض مقتضيات الحاضر، إن كنا بعد نولي شأناً للمستقبل، فلا نشهد على الفصل الأخير من نهاية النهاية.
في حديث متلفز مع الصحافي بسّام أبو زيد على شاشة الـ LBCI ، أجبت على سؤال عن الفرق بين تفاهم نيسان 1996 والترتيبات الأمنية المذكورة بالقول إن التفاهم يذكّرني بطريق عادي فيما إتفاق الترتيبات أشبه بالأوتوستراد. إنه “إنترستيت” Interstate أميركي يرتبط إستعماله، إذا صحّ التعبير، بدفع رسوم عبور. فما هي أبرز محطاته؟
من المعروف بأن وثيقة الترتيبات تلحظ 13 بنداً إلى جانب المقدمة التي تضمّنت شؤوناً بديهية في الإتفاقات الدولية كإسمي الطرفين والمقاصد والأهداف وعامل الرضى، وفي الحالة الحاضرة سعي لبنان وإسرائيل لوضع حد للأعمال القتالية واستعدادهما لتنفيذ القرار 1701 بكامله.
ولا ينتهي بحث مسألة معيّنة ببند مخصّص إذ غالباً ما يعود طرحها من جديد، وأتوقّف عند البعض منها نظراً لدقتها وإنعكاساتها.
أولاً – التكرار المتعمّد للمصطلحات
إن ظاهرة التكرار متعمّدة وليست صدفة أو زلّة وذلك للتشديد على إهتمامات معيّنة تتقّدم على غيرها لناحية العناية والتنفيذ ،ومثاله:
1- ” قرارات مجلس الأمن السابقة Predecessor UNSC resolutions” “
تكرّر ذكرها 5 مرات في وثيقة “الترتيبات الأمنية”. وبناء عليها، يقتضي ” تنفيذ ( تلك) القرارات السابقة بالكامل مع القرار 1701″. والمقصود بذلك القرارين 1559 (2004) و 1680 (2006) . ولا يمكن استنساب التغاضي عن بعض مندرجات القرار 1701 ومنها القرارين السابقين والواردين 4 مرات على التوالي في الديباجية والفقرات العاملة. ومع إدراكي لدقة الموضوع ولاسيما من الناحية العملياتية، ليس قرار مجلس الأمن الدولي قائمة طعام انتقائية. كما أن لجوء الجيش إلى القوة لتنفيذه ليس بالضرورة أفضل السبل لاسيما وأن أياً من القرارات الثلاثة لم يتخذ تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
2- “حزب الله وجميع الجماعات المسلحة الأخرى”، الحكومة اللبنانية و”دولة إسرائيل”.
يرد “حزب اللّه والمجموعات المسلحة الأخرى” مرة واحدة في البند الأول من وثيقة “الترتيبات” (فيما اكتفى تفاهم نيسان 1996 بذكر “المجموعات المسلحة”)، والتي تضعهم في موقع “المنفّذ عليه”، بينما تقع مسؤولية التنفيذ على عاتق لبنان الرسمي أي “الحكومة اللبنانية” وأداتها التنفيذية، الجيش اللبناني. وعلى العموم ، تتوزّع الإلتزامات بين “حكومة الجمهورية اللبنانية” وبين “دولة إسرائيل” The State of Israel. إن هذه الصياغة، وما قد تستتبع من تأويلات، متقدمة قياساً على تفاهم نيسان الذي اكتفى “بحكومة إسرائيل”.
3- مصطلحات ميدانية مكرّرة.
تلج “الترتيبات الامنية” في تفاصيل الاعمال الميدانية، مشيرة إلى كلمات مفصلية تتعلّق بانتشار الجيش اللبناني “بدءاً بمنطقة جنوب الليطاني” starting withوامتداداً إلى كل لبنان مع تحديد المراجع العسكرية الرسمية المخوّلة حصراّ بحمل السلاح وبما لا يترك مجالاً للإجتهاد.
ثانياً – الموجبات والإلتزامات المتبادلة، مقارنة بتفاهم نيسان 1996 و”بالورقة الفرنسية” (2024) .
1-تفاهم نيسان لم يوقف إطلاق النار ولا الأعمال القتالية بل وضع لها نطاقاً بحيث لا تقوم المجموعات المسلحة بهجمات بصواريخ الكاتيوشا أو أي نوع آخر من السلاح داخل إسرائيل. وبالمقابل لا تطلق إسرائيل والمتعاونون معها أي نوع من السلاح على المدنيين أو الأهداف المدنية في لبنان.
2- في وثيقة “الترتيبات” تغيّرت الظروف والموجبات والصورة كليّاً في البند 2 وما يليه. فالحكومة اللبنانية في الواجهة وتتحمّل المسؤولية عن معالجة أعمال غيرها وهي الملتزمة بالوثيقة والمُلزَمة “بمنع حزب الله وجميع الجماعات المسلحة الأخرى في الأراضي اللبنانية من تنفيذ أي عمليات ضدّ إسرائيل” ، أي أن المنع هو كامل دون استثناءات. وبالمقابل، “لن تقوم إسرائيل بتنفيذ أي عمليات عسكرية هجومية ضدّ أهداف لبنانية …، المدنية أو العسكرية او الحكومية في الأراضي اللبنانية براً أو بحراً أو جواً”. وهذا يعني برأيي أن إسرائيل تبقى طليقة اليد في تنفيذ عمليات دفاعية، وكذلك ضدّ أهداف غير لبنانية، أي أن هناك استثناءات على احترام السيادة اللبنانية كاملة ولا استبعد التجاوزات المغلّفة بالمبرّرات. لذلك يبدو لي بأن الخطوات الملزمة لكل من لبنان وإسرائيل غير متوازنة وبأن عامل الوقت والميدان والاستمرار بربط جبهة الاسناد اللبنانية بغزة يفسّر طبيعة المتطلّبات المتشدّدة ،مقارنة بالورقة الفرنسية الاكثر مرونة . وبالنتيجة تتفاقم الموجبات والتبعات على عاتق الدولة اللبنانية.
وعلى العموم، عانى المجتمع الدولي من التجاوزات في “الحق الطبيعي للدول في الدفاع عن أنفسها” إذ غالباً ما تقيّم الدولة “المعتدى عليها” أو “الشاكية” بطريقة غير موضوعية الإعتداء المسلح عليها بينما لا توجد ضمانة بأن أسلحة الرّد هي دفاعية وغير هجومية. ويلفت الأساتذة في القانون الدولي Forteau, Pellet, Cot في مؤلفهم حول مواد ميثاق الأمم المتحدةLa Charte des Nations Unies p.1352 الى “إساءة الدول في استخدام تدابير الدفاع عن النفس، فتكون بمثابة أعمال إنتقامية وأعمال عسكرية أخرى ذات طبيعة عقابية”.
ثالثاً – حق الدفاع عن النفس في البند 4 من “الترتيبات”، وفي الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (استخدام القوة لتنفيذ القرارات الدولية).
1- في “تفاهم نيسان” ورد: “بدون خرق هذا التفاهم، لا يوجد ما يمنع أي طرف من ممارسة حق الدفاع عن النفس” أي أن هذا الحق مقيّد بعدم إنتهاكه.
2- في وثيقة “الترتيبات الأمنية”، “لا تمنع الالتزامات أياً من إسرائيل و لبنان من ممارسة حقهما الطبيعي في الدفاع عن النفس بما يتماشى مع القانون الدولي”. وعليه ، لا يمكن فصل هذا البند عن مرجعية المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المدرجة تحت الفصل السابع. وهنا ندخل في متاهات دقيقة وخطيرة بفعل التفسير الآحادي والواسع لمقتضيات الدفاع عن النفس لمصلحة الشاكي. وبالتالي لا تعني الإشارة الى القانون الدولي بأن لبنان سيكون بمنأى عن احتمال تجاوز إسرائيل لأحكامه. ولا تبدو السوابق المفصّلة في مؤلفات القانون الدولي مشجعة. فقد استخدمت إسرائيل “الضربة الإستباقية” بحجة الدفاع عن النفس لدى قصف المخيمات الفلسطينية في لبنان عام 1975، وكذلك ضد مصر عام 1967 والعراق عام 1981 الى جانب الإعتداءات الإسرائيلية على لبنان عام 1982. وبالرغم من الضوابط التي وضعتها محكمة العدل الدولية عام 1986 لتقييد حق الدفاع عن النفس بمبدأي الضرورة Nécessité والتناسب Proportionalité، تكمن الخطورة في مبادرة الدولة الشاكية الى تقييم درجة الخطر بنفسها والمغالاة في ذلك لتبرير قساوة رّدها. (Droit International Public, Pierre-Mary Dupuy).
وتبعاً للمادة 51 من الميثاق، يحصل الدفاع عن النفس “فرادى أو جماعات”، ما يفترض وجود ارتباط تعاقدي بين الدولة المعنية والدول الأخرى المساندة او المتحالفة معها، مثل حلف شمال الأطلسي، وما تناهى عن اتفاق ثنائي إسرائيلي و أميركي موازٍ لوثيقة “الترتيبات الأمنية” الأخيرة، لم يكشف النقاب عنه رسمياً بعد.
رابعاً – اللجنتان المنبثقتان عن وثيقة الترتيبات الأمنية.
إنبثقت عن “الترتيبات الأمنية” لجنتان:
1- اللجنة الفنية العسكرية للبنان MTC4L لتمكين الجيش اللبناني من نشر ما مجموعه 10000 جندي في جنوبه، فيما العدد هو 150000 في الورقة الفرنسية.
2- ولجنة مختصّة بالرصد والتحقّق والمساعدة في تنفيذ الإلتزامات وتتلقى من لبنان وإسرائيل الإشعارات بحصول الإنتهاكات. وللعلم، إن اللجنة المذكورة هي ذاتها آلية اليونيفل الثلاثية وإنما”معززة” لتصبح خماسية بضم الولايات المتحدة وفرنسا . وكانت قد تولّت “تيسير التنسيق ووقف تصاعد التوترات وجمع الطرفين اللبناني والاسرائيلي في مقرّها” بناء على دعوة رئيسها، قائد القوة الدولية. إنفردت اليونيفل قبل سواها من قوات حفظ السلام بإنشاء هذه اللجنة بعد صدور القرار 1701 واستقرّ مجلس الامن على الاشادة بدورها البنّاء. (مراجعة الفقرة العاملة 12 من القرار 2695 تاريخ 31 آب 2023). وبناء على “الترتيبات”،ستؤول رئاسة اللجنة الخماسية الى الجانب الأميركي.
تتطرّق وثيقة الترتيبات الى المفاوضات غير المباشرة للبحث في تحفّظات لبنان على الخط الأزرق، والى إعتزام الولايات المتحدة وفرنسا دعم بناء القدرات والتنمية الإقتصادية في لبنان.
والإنطباع بأن “الترتيبات” هي أفضل الممكن.
خامساً – مرتكزات التعافي اللبناني: وقف التراشق الناري بين اللبنانيين وإعادة الإعتبار للميثاق والإصلاح.
حتى تاريخه لا يزال وقف إطلاق النار نسبياً والذي بحسب إسرائيل لا يعني وقف الحرب. وأعتقد بأن جبهة الإسناد اللبنانية حرّكت “وكر الدبابير” الإسرائيلية، ولا أدري المكتسبات التي حقّقها لبنان سوى تضامنه بالضراء مع غزّة وتفاقم فقره، ناهيك عن سقوط آلاف الضحايا وتدمير منهجي إسرائيلي لبنيته وخسائر إقتصاده وتشريد أبنائه.
“اللحظة ليست لمحاكمة مرحلة” كما صدق الرئيس نبيه برّي. ولكن السؤال المشروع يبقى عن وجهة لبنان بعد إقرار الترتيبات الامنية. يبدو لي الجواب صعباً ولن نجده في إفصاح موضوعي عن نتيجة الحرب التدميرية الإسرائيلية في لبنان ،” فللنصر مئة أب والهزيمة يتيمة” كما قال جون كنيدي عام 1961 . ربّ جوابٍ في الداخل اللبناني عندما نتصارح ولا نتصارع ،فنتصالح مع الحقيقة والحق. فلبنان فاقد المناعة، من الوحدة الوطنية السطحية إلى المطامع الاسرائيلية ومخاطر الإندماج السوري المحلّي وفصول النزوح المحتملة وتداعيات المتغيّرات في سوريا والتحسّب لمفاهيم الصداقة والأخوة والوصاية، والتحوّلات الديمغرافية، واختلاس أموال المودعين والفساد والفاسدين والقيم المتعارضة والولاءات المتنوّعة والمصالح المتطاحنة والعدالة المشلولة والمفاخرة بالمكابرة. وبالتالي تبرز الحاجة إلى حماية الذات اللبنانية وإلى الكوابح الاخلاقية والقانونية وإلى دولة صاحية ولا تصيح، سيّدة ودون أسياد كما وصفها بدقّة Michael Bardin في كتابه Droit Constitutionel Général : “داخل حدودها، ليس للدولة أسياد ولا منافسين ولا متساوين وهي تستمد سلطتها من ذاتها ولا تخضع لأية سلطة. وفي الخارج لها أقرانها من الدول وليس مَنْ يتقدّم عليها”.
لذلك قد يكون الإستحقاق الرئاسي آخر محطّة خلاصية على هذا “الاوتوستراد” الوعر بعودة الميثاقيين النخبويين ، المستقيمين والإصلاحيين إلى الحكم، إقتداء بمسيرة ورؤية الرئيس فؤاد شهاب وميثاقية الرئيس رياض الصلح، وأهمها التخطيط والإنماء بالمعنى الواسع والعدالة الإجتماعية والعمل بمفهوم”الكتاب” أي القانون والنأي بلبنان عن الغليان الاقليمي والمحاور وإلا سنبقى نحصي أعداد الاموات ونصدّر الطاقات ونلعن الاصدقاء والاعداء ونلوم الله لحرماننا الفرج والفرح.