حين تخرج هذه السطور إلى النور، تكون الولايات المتحدة الأميركيّة في طريقها الى انتخاب القيصر الجديد، الذي سيحمل الرقم 47 في طريق رؤساء أميركا منذ أول رئيس للبلاد، جورج واشنطن.
كان أول من اصطكّ تعبير “القياصرة الأمريكيّون”، كاتب السِّيَر والأكاديميّ والمذيع البريطانيّ سير نايجل هاملتون، وقد أصدر كتابًا مهمًّا للغاية عن سيرة آخر اثني عشر رئيسًا لأميركا من زمن فرانكلين د. روزفلت إلى جورج دبليو بوش.
تبدو المواءمة بين واشنطن اليوم وروما في عصر القياصرة واضحةً، والتماهي يكاد يتطابق، وقد استلهم الآباء المؤسّسون الكثير من روح الإمبراطوريّة الرومانيّة حين عمدوا إلى بناء دولتهم الجديدة، لا سيّما إطلاق وصف الكابيتول على مقرّ الكونجرس، بالضبط كما كان الأمر في حال مجلس الشيوخ الرومانيّ.
اقرأ أيضا.. عرب أمريكا.. ورقة ترامب الرابحة!
ولعلّه من نافلة القول إنّنا لسنا في مجال عقد المقاربات التاريخية بقدر السعي في تأمل مصير القيصر الجديد، والعبء المُلقَى على كاهلَيْه، هذا إن قُدِّر للأميركيّين بالفعل تجاوز العقبات الجسام نهار الخامس من نوفمبر القادم وما يليه، وعبور نهر الريبكون بصورة سلميّة، ومن غير الإغراق في الصراعات أو الولوج في العنف.
لا يدري المتابع المحقّق والمدقّق للشأن الأميركيّ هل يوجه التهنئة للفائز بمنصب الرئيس القادم، أم يشفق عليه، من هذه الولاية الرئاسيّة المفصليّة، حيث التنبؤات تلاحق الاتّحاد الفيدرالي بالتفكّك، والنسيج الأميركيّ الداخلي مهترئ بالفعل، وديالكتيك الحياة يجهّز للعمّ سام أطرافًا قطبيّة متعدّدة، منفردة تارةً ومجتمعة تارةً أخرى.
يبدو القيصر الجديد مع إمبراطورية في طريق الآفول، والتعبير هنا للمؤرّخ الأميركي الكبير “بول كيندي” في رائعته: “نشوء وسقوط القوى العظمى”.
يحتاج الحديث عن خارطة طريق القيصر الأميركي الجديد، إلى سلسلةٍ من المقالات، لا مقالاً واحدًا، وبخاصّة في ظلّ العقبات الداخليّة، والتحدّيات الخارجيّة، ومن غير أدنى شكّ، فإنّ تطور مشاهد الحياة، وسرعة عجلة المخترعات، وتصاعد معطيات الحداثة التقنيّة، جعلت من فترة قصيرة تمتدّ من الانتخابات الرئاسية 2020 إلى 2024، وقتًا كافيًا لإحداث ارتباك غير عاديّ في وسط أميركا وعلى أطرافها.
القيصر القادم وعلى حدّ تعبير كُبْريات الدوريات الأميركية ذات الأوزان المعتبرة، هو قيصر الذكاء الاصطناعيّ، بمعنى أن كافّة تحديات أميركا منذ نشأتها، سوف تختلف جذريًّا عن قادمات أيّامها.
هل يحتاج حديثنا هذا إلى توثيق؟
يكفي المرء أن ينظر إلى حالة الأمن السيبرانيّ الأميركيّ على عتبات الانتخابات، وقدر الاختراقات التي أصابت أنظمة الاتّصالات، عطفًا على المفاجآت المحتملة في هذا السياق، يدرك أنّ أوقاتًا عصيبةً تنتظر القيصر.
ولعله في مقدمة الأزمات الداخليّة، حالة التشظّي الداخليّة التي تقابل سيد البيت الأبيض، بعد أن غادرت الحياة السياسيّة مربّعات التنافس الشريف، إلى حلبات الصراعات القاسية، مع أجواء من التخوين والتخويف، ما يجعل من انفلاش العداء على أُسُسٍ عِرْقية أو مذهبيّة وحزبيّة في نهاية المشهد أمرًا واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة.
يدلف القيصر إلى البيت الأبيض، وهناك صدع عميق أصاب فكرة الحلم الأميركيّ، وسط أوضاع اقتصاديّة غير مباشرة، وتريليونات من الديون المتراكمة على الأجيال القادمة، ويكفي المرء أن يراجع كتابات أحد شباب المهاجرين إلى الولايات المتّحدة في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، ومقاربته للمشهد الحالي، وساعتها سيدرك القاري أن هذا الفتى الآتي من الهند، والذي سيضحي لاحقًا فريد زكريا الكاتب والمحلّل السياسيّ، يُنفِّر ولا يُبشِّر، ويرسم المخاوف حقيقيّة على الأرض من تغيّر الأوضاع وتبدّل الطباع، سيّما من جانب الرجل الأبيض المتراجعة قبضته الديموغرافيّة على البلاد والعباد، والذي سيتحوّل بحلول عام 2040 إلى أقلّيّة تكاد تذوب وسط أقلّيّات كبرى أخرى، ما يجعل من طرح بوتقة الانصهار أثرًا بعد عينٍ.
يَعِنُّ للمرء التساؤل هل من بين المرشَّحين لمقعد القيصر الجديد، من هو كفء لإدارة مثل هذا القدر من الاختلافات العميقة، بين الأميركيين أنفسهم، أم أن السيد ترمب والسيدة هاريس متفرغان لصراعات الديكة بينهما وتبادل الاتّهامات، ومن ورائهما ساكن للبيت الأبيضن يتجاوز كافّة أدبيّات المنافسة الانتخابيّة حين يصف أنصار المرشَّح الجمهوريّ ترامب بأنّهم أكوام من القمامة.
حديث الخارج لا يقلّ ضراوةً عن حديث الداخل، حيث الأعداء من جانب، والأصدقاء من جانب آخر، وبينهما فريق من الذي يمكننا أن نطلق عليهم “الأعدقاء”، متحفّزين لمنازلة “سيد واشنطن”، مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
باختصار غير مُخِلّ، يمكننا تساؤل ثلاثة محاور إستراتيجيّة كبرى، تمثّل الكيانات الفاعلة حول العالم، بدءًا من الاتّحاد الفيدراليّ الروسيّ، مرورًا بالتنين الصينيّ، وصولاً إلى بروكسيل الصديق المتردّد.
روسيا هو العقبة الحاليّة، والأمر لا يتوقّف عند حدود الأزمة الأوكرانيّة فحسب، بل يمتدّ إلى ما بعد نهاية الحرب مع كييف، واليوم يتساءل الكثير من علماء العلاقات الدوليّة: “ماذا سيكون من شأن بوتين مع الناتو بعد أن تضع الحرب أوزارها؟”.
بالطبع، الجميع يتحسّب لمواجهة أخرى قادمة، ربما تكون أكثر هولاً، لا سيّما إذا استمرأت لندن وباريس وبرلين المناكفات السياسيّة مع موسكو، ومضتْ في سياق التضييق الاقتصاديّ مرّةً، والمشاغبة العسكريّة مرة ثانية، ما يمكن أن يدفع صاحب الكرملين إلى مغامرة عسكريّة، من تلك التي تنجم عادة عند سخونة الرؤوس.
كيف سيتعاطي القيصر القادم مع الصين، لا سيّما إذا كان خلوًا من القراءة المعمّقة في أبجديّات “صن تزو” العسكريّة، أو نصائح كونفوشيوس الحكميّة، وكلاهما يمثّل الأذرع الحقيقيّة لتحليق الصين في عالم القطبيّة القادمة لا محالة في وقت قريب؟
لا تكفي العنتريّات في مجابهة الصين، ولا يفلح وضعها على قمة “محور الأعداء الجدد”، في إستراتيجيّة بايدن للأمن القوميّ الصادرة في أكتوبر/ تشرين أول من عام 2022.
أظهرت مسارات الانتخابات الأميركيّة أنّ كلا المرشحين لا يمتلك رؤية لسياسة خارجيّة واضحة، أو خططًا إستراتيجيّة ناصعة، لا تحتمل الشكّ، ولا تقبل التأويل، ما يعني غالب الأمر أنّ مستقبل تلك السياسات لن يتجاوز ردات الفعل وليس الفعل في أحسن الأحوال، وعليه تفقد أميركا حكمًا زمام المبادرة على الصعيد الدوليّ.
العقبات أمام القيصر تتصاعد في مدارات “الأعدقاء”، وربّما يمكن اعتبار الاتحاد الأوروبيّ من بين هؤلاء، ومن غير المصدّق أن يراجع تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخّرًا في برلين، حين أشار إلى أن اوروبا ليست الاهتمام الأول للولايات المتحدة، بقدر قارة مثل أستراليا، حيث تمثل هذه الأخيرة نقطة ارتكاز إستراتيجية في طريق مواجهة الصين بشكل عامّ.
السؤال المهمّ للأوروبيّين: كيف لنا أن نمضي قدمًا مع الجانب الغربيّ من الأطلسيّ، الصديق الأقرب، والرفيق الأكبر، حال جاء ترمب إلى الحكم مرّةً جديدة؟
هل يمكن للأوضاع في الشرق الأوسط أن تختلف كثيرًا إذا حلّ ترمب أو أخلفته الحظوظ وبَدَلتْه
بهاريس؟
تبدو قصة الولايات المتحدة الأميركية وعلاقتها بالشرق الأوسط في حاجة إلى قراءة أخرى مكملة ومتمّمة، ضمن البحث في مآلات القيصر القادم… إلى لقاء آخر.