أميركا قادرة على الحسم ولكن
هل توقفت أميركا عن إنتاج الأسلحة؟ كلا. هل توقفت عن تطويرها؟ بالعكس. هل غيرت انتشار قواعدها؟ كلا. هل طور أخصامها تقنيات أسلحتهم بصورة باتت الأسلحة الأميركية غير قادرة؟ بالعكس تماماً. هل أوقفت واشنطن تدريبات وحداتها؟ بالعكس، ضاعفتها. إذاً لماذا تبدو القيادة الأميركية عاجزة عن الرد على أخصامها في المنطقة؟ أكانت "الجمهورية الإسلامية" أو "طالبان"؟
منذ سنوات والمراقبون والمحللون وحتى أصحاب القرار في منطقة الشرق الأوسط يسألوننا لماذا لا تقوم الولايات المتحدة بإنهاء أخصامها في المنطقة ولا سيما القوى الإرهابية منهم، مع العلم أن واشنطن لديها القدرات العسكرية والدفاعية واللوجيستية والمالية لتنفذ هذا الهدف.
ويشير هؤلاء المتحدثون معنا إلى مواقع عدة، وصراعات وحتى مواجهات محددة، ويثبتون لنا بالأرقام وبما يعرفونه أن وزارة الدفاع الأميركية والأجهزة الاستخباراتية والقدرات الصناعية للولايات المتحدة متقدمة بصورة بإمكانها أن تنهي هذه التهديدات التي ليس فقط تشكل خطراً كبيراً على حلفائها المحليين، ولكن أيضاً تشكل خطراً ربما أكبر على عمق الولايات المتحدة. وهنا في الولايات المتحدة هناك أوساط أكان في داخل الكونغرس أو في مراكز الأبحاث أو في وسائل الإعلام تطرح دائماً السؤال التالي: لقد رأينا عندما قررت واشنطن أن تزيل أخطاراً كبرى كيف أنها جمعت قواها اللامتناهية وحشدتها وركزت على إنهاء التهديد وبسرعة فائقة مما دفع بكثيرين في عالم ما بعد الحرب الباردة، إلى اعتبار أن أميركا هي المنتصرة الكبرى، وهي القوة الكبرى القادرة على تحقيق الأمن والاستقرار وعلى مواجهة الأخطار الإرهابية التي تشكل تهديداً للأمن الإقليمي والدولي. وتطلق هذه الأصوات المنتقدة أكانت في الغرب أو في الشرق أمثلة حقيقية من العقود الماضية.
وتشير أولاً بأول كيف تمكنت واشنطن بحد ذاتها من الانتصار على الاتحاد السوفياتي من دون إطلاق نار مباشر بين الدولتين، وكيف أنها حشدت في أوروبا لعقود ونشرت أساطيلها في مختلف بقاع العالم واستمرت في تطوير الصناعات العسكرية مما أدى إلى الانتصار في سباق التسلح مع الاتحاد السوفياتي وأجبرته على أن يتكيف مع الصناعات الجديدة مما كان سبباً من أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي بحد ذاته.
إن حرب الخليج الأولى مع صدام حسين أثبتت، من دون منازع، أن القوات الأميركية وبعض حلفائها، بإمكانها أن تنتشر من بقعة في العالم إلى بقعة أخرى، ومن الوطن الأم إلى ساحات نائية تبعد آلاف الكيلومترات عن الأراضي الأميركية، وحسم حرب كهذه، في خلال أشهر محدودة، حسماً تاماً، وتحرير الكويت تحريراً كاملاً من قوات احتلال البعث العراقي وكسر شوكة صدام حسين على رغم قوته العسكرية الكبيرة وسلاحه المتقدم من الاتحاد السوفياتي.
ويأتي هذا بعد صعوبات للولايات المتحدة في التغلب على الأخصام خلال الحرب الباردة، أولاً إبان حرب كوريا في الخمسينيات، وثانياً خلال حرب فيتنام، وكان وقتها التوازن قائماً بين السلاح الأميركي والسوفياتي إلى حد ما، ولكن في حرب الكويت ظهرت أميركا مجدداً كقوة عسكرية ضخمة، والأقوى عالمياً، في حسم المعارك، وقد نجحت في إخراج “جيش المليون” من الكويت في أقل من 30 يوماً.
الحرب التالية كانت اجتياحها الخاطف أفغانستان بإنزال القوات الخاصة ومشاة البحرية وقوات المظليين، واستعمال سلاح القاذفات، فسقطت “قلعة الإرهابيين العالمية” بين يدي قوات حلف “الناتو” التي تمكنت، بفضل قائدتها الكبرى، أن تقيم جسراً عبر دول أخرى، وإقامة احتلال عسكري للبلاد.
أما في عام 2003 فأثبتت الولايات المتحدة مرة أخرى قدرتها العسكرية باجتياح سريع لدولة ذات قوة متوسطة ثقيلة في مدة أسابيع، أي دولة العراق التي كانت قد تلقت أكبر أنواع الأسلحة من الاتحاد السوفياتي، وكان العالم وقتها خائفاً من أن تطول الحرب لسنوات، إلا أن فرق المارينز تقدمت داخل العراق ودمرت الحرس الجمهوري بسرعة، واحتلت البلاد، وكان لها قدرة لوجيستية على الاستمرار لسنوات أيضاً، فلا “طالبان” ولا الجيش البعثي أوقفا القوات الأميركية.
في 2011 أسقطت البحرية وسلاح الجو الأميركي وحلفاؤها نظام معمر القذافي من البحر والجو، على رغم سلاحه المتقدم، في بضعة أيام فحسب.
وفي 2014 شنت القوات الأميركية والتحالف حملة عسكرية ضد تنظيم “داعش” الذي انتشر بين سوريا والعراق، وأسقط الجيش العراقي وأضعف الجيش السوري وتوحش على السكان الآمنين. فشن الطيران الأميركي والحليف غارات متتالية على القوات “الداعشية” في طول وعرض “الهلال الخصيب”، وسلحت الأكراد وأقحمت في المواجهات وحدات كوماندوس، فتمكنت الولايات المتحدة من تحرير أجزاء كبرى من الدولتين وأعادتها إلى مجتمعاتها بعد سنوات من “التكفيرية الدموية”. فإذ بهذه الحملات العسكرية الحاسمة تدل إلى أن لا قوة نارية أو عسكرية في الشرق الأوسط بإمكانها أن تقف بوجه القوة العسكرية الأميركية نارياً، تكنولوجياً، أو لوجيستياً. وليس هناك قوة إقليمية قادرة على أن تمنع “البنتاغون” من الوصول إلى دولة مارقة مسلحة إذا قررت واشنطن التدخل فيها. بينما الاتحاد السوفياتي لم يتمكن من تثبيت أقدامه في أفغانستان أمام مقاتلين بسطاء مع كلاشنكوف. لكن شيئاً ما قد تغير منذ عام 2009.
فهل توقفت أميركا عن إنتاج الأسلحة؟ كلا. هل توقفت عن تطويرها؟ بالعكس. هل غيرت انتشار قواعدها؟ كلا. هل طور أخصامها تقنيات أسلحتهم بصورة باتت الأسلحة الأميركية غير قادرة؟ بالعكس تماماً. هل أوقفت واشنطن تدريبات وحداتها؟ بالعكس، ضاعفتها. إذاً لماذا تبدو القيادة الأميركية عاجزة عن الرد على أخصامها في المنطقة؟ أكانت “الجمهورية الإسلامية” أو “طالبان”؟ الجواب في المقال الآتي.