مرّت 406 أيام على الحرب الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة.
توالت خلال هذه الفترة الطويلة تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية التي تتهم إسرائيل بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
خلال يوم واحد، أمس الخميس، صدر تقريران واحد عن الأمم المتحدة والآخر اعتبر ممارساتها «تتسق مع خصائص الإبادة الجماعية» وترقى الى «جريمة حرب» بسبب «سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين وظروف تهدد حياة الفلسطينيين فرضت عمدا» وبسبب «استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب وفرض عقاب جماعي على الفلسطينيين» وتقرير آخر عن منظمة هيومن رايتس ووتش اعتبر أوامر الإخلاء «جريمة حرب» متمثلة في «تهجير قسري» وفي مناطق أخرى «تطهير عرقي».
فشلت كل هذه التقارير، وكل المحاولات الأخرى، بما فيها قرار نتج عن دعوى جنوب افريقيا ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، وإعلان محكمة العدل الدولية عن إجراءات لإصدار مذكرتي توقيف بحق رئيس حكومة إسرائيل ووزير دفاعه السابق، ورغم قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا الخصوص، وقرار لمجلس الأمن، ومطالب من قمتي الرياض العربية ـ الإسلامية، وأشكال من الضغوط العالمية.
لم يتوقف ما يحصل رغم الطبيعة الإبادية والإجرامية بمستوى «صناعي» هائل، وبدلا من ذلك بدأت تتكشف سيناريوهات إسرائيلية، تدعمها إدارة أمريكية جديدة متشددة يقوم الرئيس المنتخب دونالد ترامب بتأليفها، عن مخططات لإعلان سيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، واستمرار عسكري في غزة، مع احتمالات متزايدة لحصول تطهير عرقي في غزة وحتى الضفة.
في اليوم نفسه لصدور التقريرين حول فلسطين، عُقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي حول السودان، تحدّث المشاركون فيه عن النزاع الذي اندلع في 15 نيسان/ إبريل 2023 وأدى لأكبر أزمة نزوح في العالم حيث تشرد أكثر من 11 مليون شخص وفرّ 3 ملايين منهم الى الدول المجاورة، وأطلق ذلك العنان لأزمة جوع بحيث يواجه أكثر من 750 ألف شخص أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي وظروف المجاعة.
ذكرت في الاجتماع تقارير عن فظائع صادمة ترتكبها، بشكل رئيسي، «قوات الدعم السريع» وتتضمن القتل الجماعي والقصف العشوائي على المدنيين، بحيث أن الأشهر الأخيرة كانت «الأكثر دموية» إضافة إلى أن وحشية عمليات الاغتصاب المروّعة أجبرت أكثر من 130 امرأة على الانتحار بشكل جماعي، وأظهر تقرير جديد أصدره باحثون في بريطانيا والسودان يشير إلى أن أكثر من 61 ألفا قتلوا في ولاية الخرطوم وحدها، كما أكد تقرير أممي آخر أصدرته الأمم المتحدة أوائل هذا العام مصرع نحو 15 ألف شخص في مدينة واحدة غرب دارفور في أعمال عنف عرقية نفذتها ميليشيا الدعم السريع.
اقرأ أيضا| بعد عودة ترامب.. ما مصير صفقة القرن
تؤكد التقارير الأممية والحقوقية أن رفض الطرفين المتحاربين وقف إطلاق النار والعمل على تسوية ومواصلتهما تصعيد العمليات العسكرية وتجنيد مقاتلين جدد وتكثيف الهجمات، سببه «الدعم الخارجي الكبير» وعلى حد قول روز مار ديكارلو، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام.
ما يثير الانتباه، إضافة الى موضوع الدعم الخارجي الكبير الذي يؤجج الصراع، أن القوى الغربية المؤثرة في الصراع الفلسطيني، تلعب دورا أيضا في عدم انتهاء النزاع المسلح في السودان، فرغم التقارير الأممية والحقوقية الموثقة عما يحصل من فظائع، تتسبب بها، بشكل رئيسي، قوات الدعم السريع، فإن هذه الدول، رغم انتقاداتها أحيانا للميليشيا، تمتنع عن إعلان «الدعم السريع» ميليشيا إرهابية، أو الضغط بشكل فعال على الممولين الخارجيين لوقف تمويلهم لها بشكل يدفعها لقبول وقف إطلاق النار.
هناك اختلافات سياسية كبرى بين الحدثين: يدفع الفلسطينيون تكاليف صراع وجودي مع «المسألة الإسرائيلية» التي تتداخل فيها تعقيدات الإرث التاريخي الإبادي لأوروبا ضد اليهود، مع إرث الاستعمار الاستيطاني، ومشاريع إخضاع منطقة الشرق الأوسط، فيما يتعرّض السودانيون لصراع دمويّ يعبر عن انحطاط الدولة الوطنية الحديثة بعد الاستقلال، حيث تعتبر «القوات المسلحة» والأجهزة الأمنية أن سلطتها هي الدولة، فيما تتطلّع الميليشيا ـ الدويلة، المدعومة خارجيا (بما في ذلك من إسرائيل!) للحلول مكانها.
تواطؤ الغرب مع إبادة الفلسطينيين، في الحالة الأولى، هو عنوان أيضا لانحطاط المنظومة القانونية العالمية مما قد يؤدي لانهيارها، أما تواطؤه مع إبادة السودانيين، فمزيج من التجاهل الفظ، ومصالح «سوق سوداء» يتشارك فيها مع دول وسيطة، ومنظمات إرهابية، ويتم فيها تبادل «خدمات» لمنع الهجرة إلى أوروبا، واستخدام المرتزقة لأهداف محلية، والبيع الرخيص لمبادئ القانونية العالمية.