تونس

تونس تواجه “القبليّة الرياضيّة”

من السذاجة أن يتصور أحد أن كرة القدم في تونس يمكن أن تبقى بمنأى عن رياح السياسة وعواصفها أو أن تكون بمعزل عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد

تركز انتباه التونسيين خلال الأسابيع الأخيرة على حوادث العنف التي عادت لتعكر أجواء المنافسات الرياضية، وخصوصاً مباريات كرة القدم. ولا أحد يتوقع أن تتوقف هذه الحوادث قريباً رغم الإجراءات التي تتخذها السلطات كل مرة من أجل ردع المتورطين.
لم يعد الأمر يتعلق بوقائع معزولة أو استثناءات، بل بظاهرة مستشرية مرتبطة إلى حد بعيد بنزعات تحرك المجتمع التونسي، وخصوصاً شباب الأحياء الشعبية الذين يشكلون شرائح واسعة من جماهير الملاعب.
تختلف الآراء بشأن الجذور العميقة للمشكلة وطرق التصدي لها. ثمة من يرى فيها خروجاً عن القانون تجب معالجته بوسائل أمنية متطورة تعتمد تكنولوجيات المراقبة والتدخل الاستباقي. وثمة في المقابل من يرى فيها إفرازاً لواقع سياسي واقتصادي واجتماعي معقد تجب معالجة أسبابه قبل مظاهره.
تضم جماهير الملاعب مجموعات متنافسة يحركها خطاب احتجاجي ضد ما تراه من مظاهر للظلم وعدم المساواة، تعبّر عنها أهازيجها ولافتاتها وحركاتها الاستعراضية المختلفة.
بعض المطالب يرتبط بالمنافسات الرياضية ذاتها ويتمثل في ما يراه المشجعون تمييزاً بين الفرق الرياضية، لجهة عدم توافر الملاعب في كل المناطق، أو تلاعباً بالنتائج الرياضية، أو سوء تنظيم للمنافسات وطرق تعامل أجهزة الأمن مع المشجعين.
لكن مسوغات الغضب تتجاوز حدود الملاعب. الكثير من الشباب غاضبون قبل كل شيء على أحوالهم باعتبار أن أعداداً كبيرة منهم تعاني البطالة والانقطاع عن الدراسة وعدم توافر فرص العيش الكريم. هم بالتالي غير راضين عن سياسات السلطة تجاههم وتجاه مناطقهم. ومع توسع رقعة الفقر والاحتياج إلى الطبقة الوسطى تعززت صفوف المجموعات المحتجة.
يمتد الغضب والاحتجاج إلى القضايا الإقليمية. وقد أظهر نهائي البطولة الأفريقية لكرة القدم (الذي خاضه أحد الفرق التونسية أخيراً ضد فريق مصري) أن للجمهور مشاعر جياشة ومواقف حادة ضد الحرب في غزة وتظهر مجموعاته متابعة دقيقة لأطوار هذه الحرب.
وما يثير الانشغال ليست الرسائل التي يبعث بها المحتجون في الملاعب بقدر ما هو نزوع هؤلاء نحو الانفلات وعدم احترام أي شكل من أشكال السلطة، سواء أكانت تمارسها الدولة أم الأسرة أم المجتمع. هذه نزعة يعانيها المجتمع التونسي، ليس فقط في الملاعب، بل أيضاً في الشارع ووسائل النقل وحتى في المدارس.
يمثل ذلك معضلة للسلطات الأمنية، خصوصاً منذ انتفاضات 2011، إذ تجد صعوبة في التعامل مع الأجيال الصاعدة، وخصوصاً مع شباب الأحياء الشعبية، وفي محاولة التوفيق بين ضرورات حفظ النظام وإصرار الأجيال الجديدة على إبلاغ صوتها حتى إن كان ذلك بتحدي السلطة والقانون.
فوضى الملاعب هي أيضاً جزء غير مباشر من وهن الاقتصاد. فالأزمة الاقتصادية تضعف قدرة الدولة على الإصلاح والإنجاز، بما في ذلك تشييد التجهيزات الرياضية والمرافق العامة في كل الجهات.
وفوضى الملاعب لها علاقة بالتجارة غير النظامية، بما فيها المتاجرة بالتذاكر في السوق السوداء بأسعار مشطّة وبتوفير الشماريخ المضيئة التي تشعلها جماهير الملاعب في احتفالياتها، ما يتسبب في كثير من الأحيان بحجب الرؤية عن الحكام واللاعبين نتيجة الدخان المتصاعد. ويؤدي ذلك إلى توقف المباريات أحياناً وتحولها إلى مسرح للمواجهة مع الأمن ولحوادث العنف في المدارج.
والبعض يرى لظاهرة العنف في المباريات الرياضية علاقة بأزمة الديموقراطية في البلاد، حيث لم تتأصل بعد (سواء في الرياضة أم في السياسة) قيم المنافسة الشريفة ومبادئ القبول بالفوز والخسارة في ظل قواعد واضحة وشفافة.
ويخطئ من يتوهم أن الرياضة ليست في قلب السياسة في تونس. حاولت الأحزاب والقيادات السياسية، خصوصاً منذ سنة 2011، استمالة الجماهير بالانخراط النشيط في تسيير الجمعيات الرياضية. لكن توظيف كرة القدم في المعارك السياسية أجج التوترات في البلاد، وأدى إلى النص في القانون الانتخابي على منع الجمع بين الترشح للانتخابات التشريعية وترؤس الجمعيات الرياضية. غير أنه لا شيء يمنع مستقبلاً الجمع بين النشاط الرياضي والسياسي إن تم ذلك بطرق غير معلنة.
ويخطئ أيضاً من يتغافل عن دور الإعلام والمنصات الإلكترونية في تعميق المشكلة، وخصوصاً البث التلفزيوني المباشر للأحداث من الملاعب وتركيزه على جوانبها الاستعراضية. وإعراب المعلقين التلفزيونيين عن انبهارهم باحتفاليات المجموعات المتنافسة واحتجاجاتها يجعل المدارج مركز الاهتمام الرئيسي عوض الملاعب ويخلق مصادر جديدة للعنف والبطولات الوهمية.
ومن السذاجة أن يتصور أحد أن كرة القدم في تونس يمكن أن تبقى بمنأى عن رياح السياسة وعواصفها أو أن تكون بمعزل عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد. والمشكل اليوم هو أن أحداث العنف يمكن أن تزيد في تأجيج الاحتقان والانقسام داخل المجتمع التونسي المنقسم أصلاً.
بعد الاستقلال كان أصحاب القرار يتباهون بنجاحهم في القضاء على القبلية والعشائرية ووضعهم أسساً لمجتمع يسوده الانسجام. لكن الواقع لم يطابق سردياتهم المتفائلة.
بقيت النعرات الجهوية تحرك نزعات العدوانية والعنف في ميادين الرياضة وخارجها. ولم تهدأ أبداً هذه النعرات في الملاعب بل فاقمتها عوامل أخرى تولّد منها جو من “القبلية الرياضية” يرى فيها بعض الشباب ملجأ وهوية أمام عدم اطمئنانه إلى مستقبله وعدم شعوره بالأمان. والخوف هو من أن تمتد هذه “القبلية” الجديدة إلى مجالات أوسع.
يشكل تفاقم العنف في الملاعب جرس إنذار يجب أن ينبه الجميع إلى أن الأزمات في تونس قد طالت وآن الأوان لمعالجتها قبل أن تخرج تماماً عن السيطرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى