الجزائر

تسليم المشعل في الجزائر.. فرية الشيوخ على الشباب

إذا كانت للحكام الجدد نية جادة في تحقيق الانتقال الحقيقي، عليهم بوضع الثقة الكاملة في الجيل الجديد، وليس استعماله كواجهة أمام العالم أو كشعارات وخطب سياسية

منذ عقود كاملة تتردد في الخطاب السياسي الجزائري مقولة ديماغوجية هي “تسليم المشعل إلى الشباب”، لكن لا شيء من ذلك القبيل تم إلى حد الآن، لأن الشيوخ يرفضون في الحقيقة المبدأ من أصله، حتى ولو أن اليأس من حدوث التغيير وتحقيق الانتقال بين الأجيال جعل الشباب يراهنون على العمر الافتراضي ويتركون الأمر للموت كحتمية طبيعية لنهاية الجيل المتمسك بالسلطة.

ولأن حبل الكذب قصير، فقد اهتدى الشيوخ لتمرير حيلة التمسك بالمشعل، إلى استقطاب نخبة من الشباب إلى محافل ومناصب تظهرهم في ثوب الحكام المدبرين للشأن العام، لكن المفاتيح باقية دائما بين أيدي هؤلاء الشيوخ، فتحول الشباب إلى وقود لسياساتهم وأفكارهم بدل أن يكونوا هم أصحاب الروح والدم الجديد الذي يُضخّ في أوصال الأمة.

وإذ كان صراع الأجيال صريحا وواضحا في وقت مضى، بين جيل يتمسك بالمشعل وجيل يريد افتكاكه، فإن حيلة الشيوخ المذكورة أفرزت أزمة مستجدة وغير مسبوقة، تتمثل بـ”شيخنة الشباب”، فما يظهر في الواجهة أنه نخب شبابية، ما هو في الحقيقة إلا أشخاص في فتوة الشباب لكن عقولهم عقول شائخة، فقد تأثر تواجدهم في بعض المفاصل والمؤسسات بسياسة تلك الطبقة وأفكارها، ولذلك صاروا يفكرون بعقولها وليس بعقولهم.

يتذكر الجزائريون كيف انتفض حاكم باسم الشرعية الثورية، وأقسم للشاب الذي كان يناقشه في مناظرة سياسية متلفزة، بأغلظ الأيمان “والله ما نطلقوها”، ويقصد بذلك رفض تسليم المسؤولية للجيل الشاب، وهذه عقدة لازمت صناع الاستقلال الوطني الذين غلب على شعورهم ملكية الاستقلال وملكية البلاد، فهم يشككون في كل من ينازعهم السلطة أو يريد افتكاكها منهم، بدعوى أنهم ليسوا في مستوى الرسالة والأمانة التي ضحوا من أجلها.

وفي الجزائر يمكن أن يعطيك حاصل جمع أعمار ثلاثة مسؤولين فقط قرنين ونصف القرن من الزمن، ومجرد رؤيتهم في أيّ صورة عفوية توحي للشباب الذي يغذي الشعارات السياسية فقط، بأنه يستحيل حدوث الانتقال الطبيعي بين الأجيال، رغم ما يظهر من مشاهد يؤدي فيها شباب دور عرائس قراقوز، فماسك الخيط هو شيخ طاعن في السن يرفض التسليم لقوانين السياسة والمجتمع وحتى الطبيعة.

رسّمت مناسبات وأعياد للشباب تشحن في كل مرة بكل الشعارات الخاوية والخطب الجوفاء، فما دام جيل الاستقلال الأول شاخ ولم يحدث أيّ شيء من ذلك، فكيف للجيل الجديد أن يؤمن بها، فهو يعرف مكانته ودوره ويدرك أن المفاتيح لن تكون من نصيبه في ظل شغف وهوس السلطة الذي يغمر جيل الشرعية الثورية.

كانت مصادفة شيوخ بحيوية الشباب واندفاعهم تريح وتعطي الأمل في تفهم تحقيق الانتقال، لكن شيوع شباب بجمود الشيوخ ومحدوديتهم في السنوات الأخيرة، يفرز أزمة جديدة، وفوق ذلك هناك إصرار على وضع أطراف معادلة جديدة بتوافقات وأدوار على ظاهرها الإيجابي، فإن باطنها يضرب ما تبقى من الثقة، لأن نخب الشباب المذكورة لا تعبر عن رغبة وعائها في التجديد والتغيير، بل تخدم الثبات والجمود.

الخطاب السياسي السائد لا زال ينظر للشباب بعيون العمر والعضلات والاندفاع، ولذلك اعتقد أن مجرد استمالتهم لشغل بعض المفاصل والمؤسسات سينهي الأزمة العميقة، ويعتبر أن مجرد التفاعل مع بعضهم في جلسة أو تجمع كفيل بردم تلك الهوة، وأن عبارات حماسية حول اقتحام بعض الميادين التي عجز الشيوخ عن فهمها، أو شغل مواقع خلفية سيحقق السلم المأمول ويطفئ نزوات الجنون الشبابي.

الرسالة الغائبة أو المغيبة عن ذلك الخطاب هي أن الشباب ليس عمرا أو عضلات أو مغامرات، بل هو روح تجديد وتغيير، وضخ دماء جديدة في أوصال الدولة التي شاخت بشيخوخة النخب الحاكمة، لاسيما وأن قواعد الديمقراطيات الحديثة تتحدث عن أن خلود المسؤول في منصبه لأكثر من عهدتين يصبح غير قادر على فهم لغة المجتمع وتحولاته.

يعرف الجميع كيف تعطلت الجزائر ومرضت لسنوات بعطل ومرض رئيسها الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وكان ذلك كافيا لإرساء ثوابت تحظر على أفراد النخبة الحاكمة الخلود في مواقعها ليس لأن المجتمع يعج بالشباب فقط، بل لأن مصلحة الدولة تملي التداول السلس على مفاصلها.

صحيح فئة الشباب هي العنصر الذي يحقق لمجتمعها النهضة وتضعه في مواكبة التطور الإنساني، لكن هي ليست جامعات ومراكز بحث وإبداع وتحكم في التكنولوجيات فقط، بل هي أيضا روح تغيير وتجديد في إدارة الشأن العام، وإلا ما الجدوى من امتلاك أحدث وأغنى مركز أو تكنولوجيا، في مجتمع يتحكم فيه من لا يفهمون تلك اللغة.

إذا كانت للحكام الجدد نية جادة في تحقيق الانتقال الحقيقي، عليهم بوضع الثقة الكاملة في الجيل الجديد، وليس استعماله كواجهة أمام العالم أو كشعارات وخطب سياسية، فكما تملك الجزائر العباقرة في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية، تملك أيضا عباقرة في علوم التسيير وإدارة الشأن العام، والمهندس الذي يدير باقتدار مركزا في البلاد أو خارجها، لا يمكن له النجاح إلا في مناخ يوفّره سياسي شاب مقتدر بإمكانه استلام مفاتيح المرادية أو أيّ مؤسسة أخرى في الدولة.

الجيل الشاب، ليس عكازا تكنولوجيا ولا بطّالا يبحث عن عمل، أو مبدعا يبحث عن مؤسسة ناشئة، هو شحنة إما أن تحرك محركات الدولة في كل المجالات، أو رماد بارد تذروه الرياح، وقبل تغذيته بشعارات الحرب الباردة، على الشيوخ الاقتناع بتسليم المشعل ليحقق الجيل الشاب ما عجزوا عنه هم، ويمسك بمأمورية بلده، فهو جزائري أيضا ولم ينزل من السماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى